الأحد، 11 ديسمبر 2022

كتاب الجامع للفضائل فضل الصبر الشيخ/ندا أبو أحمد

 

كتاب الجامع للفضائل  

(51) 

فضل الصبر  الشيخ/ندا أبو أحمد /فضل الصبر

M

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهد الله ُفلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولُه.

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1)

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب :71،70)

 

أما بعد....

فإن أصدق الحديث كتاب الله ــ تعالى ــ، وخير الهدي، هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

 

 

نبض الرسالة

تعريف الصبر:

أهمية وضرورة الصبر:

فضل الصبر:

أولًا: فضائل الصبر في القرآن الكريم:

1- الله جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم؛ وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم:                              2- الصبر من الخصال الحميدة التي يتحلى بها الأنبياء والصالحين:

3- بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين:               4- الصابرون أعد الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيما:

5- الناس في خسران إلا أهل الصبر والإيمان:                6- الصبر سبيل للفوز بمحبة الله تعالى:

7- الصبر سبيل للفوز بمعية الله تعالى:

8- علق الله تعالى الفلاح والنجاح على الصبر والتقوى:

9- أهل الصبر هم أهل العزائم الكُمّل، وأصحاب التجارة التي لا تبور:

10- وعد الله الصابرين بأن يجازيهم بأَحسن ما كانوا يعملون:

11- الصبر خير معين على مصائب ومتاعب الحياة الدنيا:

12- وعد الله تعالى الصابرين بحسن العِوض عما فات، والإخلاف عما فُقد:

13- كرَّم اللهُ الصبرَ وشرَّفه وذلك بإضافته لنفسه سبحانه:

14- وعد الله تعالى أهل الصبر والتقوى بحسن العاقبة:

15- خصال الخير لا يلقاها إلا الصابرون:              16- الصابرون لهم البشرى من الله تعالى:

17- الصابرون يوفيهم الله أجورهم بأفضل منها في الدنيا والآخرة:

18- الصابرون يضاعف لهم الأجر والثواب:

19- ومن فضل الصبر أن الله تعالى قرنه بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها:

20- الله تعالى وعد الصابرين بالنصر والظفر:

21- الله تعالى جعل الصبر والتقوى جُنَّة عظيمة من كيد العدو ومكره:

22- الصابرين أثنى الله عليهم وزكاهم؛ ووصفهم: بالصدق والتقوى:

23- أخبر الله تعالى أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها أهل الصبر والشكر:

24- أخبر الله تعالى أن الصبر خير لأهله، ومن أصدق من الله قيلًا:

25- الله تعالى علَّق النصر والمدد على الصبر والتقوى:

26- أهل الصبر والمرحمة هم أصحاب الميمنة:

27- الصابرون يوفيهم الله أجورهم يوم القيامة بغير حساب:

28- الصبر سبيل للفوز والنجاة في الآخرة:

29- الملائكة تسلم على الصابرين في الجنة جزاء صبرهم:

30- الصابرون ليس لهم جزاء إلا الجنة:

31- الصابرون يسكنون الغرف في أعلى درجات الجنة:

ثانيًا: فضائل الصبر في السنة النبوية المباركة:

1- أفضل ما يهب الله للإنسان نعمة الصبر:

2- من يتكلف الصبر يرزقه الله إياه، ويكون له سجية وطبع حيث لا يشق عليه:

3- الصبر ضياء:                                        4- السعيد من رزقه الله نعمة الصبر:

5- أفضل الإيمان: الصبر والسماحة:

6- من رُزق الصبر؛ رزقه الله الرضى وراحة البال:

7- من رُزق الصبر؛ فقد رزقه الله الخير الكثير:

8- الصبر يكون على قدر البلاء:                          9- بالصبر ينال الإنسان مراده:

10- النصر لا يكون إلا مع الصبر:                      11- الصابر المحتسب له أجر شهيد:

12- الصابر في زمن الفتن والشهوات له أجر خمسين شهيدًا من الصحابة:

13- الصبر جزاؤه الجنة:

سؤال يبحث عن إجابة: هل المؤمن يثاب ويؤجر على المصيبة أم على الصبر عليها والرضا؟

أقوال السلف عن الصبر:

أنواع الصبر:

أقسام الصبر باعتبار متعلقه:

مراتب الصبر:

أمور تقدح في الصبر وتنافيه:

أمور لا تنافي الصبر:

مجالات الصبر:

الأمور التي تعين على الصبر عند نزول المصيبة

وأخيرًا: فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، ومن ثمرات الصبر: الرضا:

صور من صبر الذين كانوا قبلنا:

تعريف الصبر:

- الصبر لغة: هو الحبس والكف، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (الكهف: 28)

وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي: أحبس نفسك معهم، ومنه أيضا قولهم: قُتِل فلان صبرًا، إذا أُمسك وحُبس.

- الصبر شرعًا: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى، وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ.

- وقيل: هو خُلُق فاضلٌ مِن أخلاق النفس، يمتنع به مِن فعل ما لا يحسُنُ ولا يجمُلُ، وهو قوَّة مِن قوى النفس، التي بها صلاحُ شأنها، وقوام أمرها.

- وقيل: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.

- وقيل: هو ثبات القلب عند موارد الاضطراب. (مدارج السالكين: 1/162 باختصار)

- وقيل: حبس النفس على ما تكره، ابتغاء مرضاة الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}

(الرعد: 22)

والصبر والجزع ضدان، كما جاء في القرآن حكاية عن أهل النار حيث قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} (إبراهيم: 21).

 

قال ابن منظور-رحمه الله- في أسماء الله تعالى: الصَّبُوْرُ: هُوَ الذِي لا يُعَاجِلُ العُصَاةَ بِالِانْتِقَامِ.

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي موسي الأشعري t قال: قال رسول الله ﷺ:

" ليسَ أحَدٌ أصْبَرَ علَى أذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ؛ إنَّهُمْ لَيَدْعُونَ له ولَدًا، وإنَّه لَيُعافيهم ويَرْزُقُهُمْ!".

وقوله ﷺ:" ليسَ أحَدٌ أصْبَرَ علَى أذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، ....". أي: أشد حلما على فاعل ذلك وترك المعاقبة عليه. (الصحاح للجوهري: 2/ 706) (لسان العرب: 4/438)

قال الزجاج-رحمه الله-: الصَّبُوْرُ: فعول بمعني فاعل، ومعني الصبر والصبور في اسم الله تعالى قريب من معني الحليم. (تفسير أسماء الله الحسني للزجاج ص65)

وقال الغزالي-رحمه الله-: الصَّبُوْرُ: هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه، بل ينزل الأمور بقدر معلوم، ويجريها على سنن محدود، لا يؤخرها عن آجالها المقدرة لها، ولا يقدمها على أوقاتها، بل يودع كل شيء في أوانه على الوجه الذي يجب أن يكون كما ينبغي. اهـ

(المقصد الأسنى للغزالي ص149)

 

أهمية وضرورة الصبر:

ترجع عناية القرآن البالغة بالصبر إلى ماله من قيمة كبيرة دينية وخلقية، فليس هو من الفضائل الثانوية أو المكمّلة، بل هو ضرورة لازمة للإنسان ليرقى ماديًا ومعنويًا، ويسعد فرديًا واجتماعيًا، فلا ينتصر دين، ولا تنهض دنيا إلا بالصبر.

فالصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية، فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، ففي الدنيا لا تتحقق الآمال ولا تنجح المقاصد، ولا يؤتي عمل أكله إلا بالصبر؛ ولهذا من صبر ظفر، ومن عُدم الصبر لم يظفر بشيء، فلولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس على غرسه ما جنى ولا حصد، ولولا صبر الطالب على درسه ما أفلح، وهكذا كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، استمرأوا المر، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب.

وما أصدق قول الشاعر:

وقل من جد في أمر يحاوله       واستصحب الصبرَ إلا فاز بالظفر

والصابرون لا يستسلمون لليأس، ولا يفقدون نور الأمل، شعارهم قول الشاعر الحكيم:

لا تيأســــــن وإن طـــالت مطــــــالبــــــــــــــــــــــة      إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته     ومدمــــن القــــــــرع للأبـــواب أن يلجا

لقد عرف عشاق المجد، وخطاب المعالي، وطلاب السيادة، أن الرفعة في الدينا لا تنال إلا بالجهد والمصابرة، وتجرع غصص الآلام، وبدون هذا لا يتم عمل، ولا يتحقق أمل وفي هذا المعني، يقول أحدهم:

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله     لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 

وإذا كانت هذه طبيعة الطريق الموصلة إلى العلا والمجد، فلا سبيل إلى اجتيازها إلا بالصبر، ولا يقدر عليها إلا الصابرون.

وصدق القائل حيث قال:

والصبر مفتاح ما يُرجي       وكــــل صعــــب بـــــــه يهون

وربمــــــــــا نيـــــل باصطبـــار       ما قيل: هيهات لا يكون

فالصبر مفتاح النجاح والفلاح والعلا في الدنيا، أما في الآخرة فالصبر سبيل للفوز برضى الله، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن فضل الصبر من القرآن والسنة.

(حقيقة الصبر في القرآن وضرورته ص 12،13)

والنفس مطية الإنسان التي تسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب.

يقول بعض السلف: اكبحوا هذه النفوس، فإنها متطلعة إلى كل سوء، رحم الله امرأً جعل لنفسه خطامًا وزمامًا، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله. اهـ

وحقيقة الصبر أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة إحجامه إمساكًا عما يضره.

 

ويقول ابن القيم-رحمه الله- في كتابه" عدة الصابرين ص 10 مبينًا أهمية الصبر":

فإن اللَّه سبحانه جعل الصبر جوادًا لا يكبو([1])، وصارما لا ينبو([2])، وجندًا غالبًا لا يهزم، وحصنًا حصينًا لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان. فـــ " النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر ([3])"، وهو أنصر لصاحبه من الرجال، بلا عدّة ولا عدد، ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد.

فالصبر آخيّة المؤمن ([4]) التي يجول ثم يرجع إليها، وساقُ إيمانه التي لا اعتماد له إلا عليها، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمانٌ قليلٌ في غاية الضعف، وصاحبه ممن {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}(الحج:11)، ولم يحظَ منهما إلا بالصفقة الخاسرة، فخير عيشٍ أدركه السعداءُ بصبرهم، وترقوا إلى أعلى المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. اهـ. باختصار.

 

 

فالصبر سبيل النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وهو فضيلة يحتاج إليه الإنسان، لأنه إما أن يكون بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، أو نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، أو قدر يجري عليه اتفاقًا، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازمٌ فيها، فالحياة لا تستقيم إلا بالصبر، فهو دواء المشكلات في دار الابتلاء، والصبر زاد المجاهد إذا أبطأ عليه النصر، وزاد الداعية إذا أبطأ عنه الناس بالإجابة، وزاد العالم والعابد في زمن الغربة، وهو زاد السائرين إلى رب العالمين. (انظر عدة الصابرين لابن القيم:1/114)

والدين كله ما هو إلا علم بالحق وعمل به، والعلم لا ينال إلا بالجهاد، والجهاد يحتاج إلى صبر، والعمل بهذا العلم لابد فيه أيضًا من الصبر، والعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرَّشاد، وضد الأول: الضلال، وضد الثاني: الغي. فالضلال؛ العمل بغير علم، والغي؛ اتباع الهوى، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم:2،1) فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرَّشاد إلا بالصبر. ولهذا قال عليّ t:" ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، فإذا انقطع الرأس هلك الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له ". (بصائر ذوي التميز:3/376)

فضل الصبر

وبعد هذه المقدمة لبيان أهمية الصبر، آن لنا الشروع للدخول في الموضوع، وبيان فضل وفوائد الصبر.

وقد ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعًا ([5])، وأضاف إليه أكثر الخيرات والدرجات وجعلها ثمرة له، والصبر له فوائد وفضائل كثيرة جاء ذكرها في كتاب ربنا، وفي سنة رسولنا ﷺ:

 

أولًا: فضائل الصبر في القرآن الكريم:

 

1- الله جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم؛ وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم:

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (سورة البقرة: 155- 157)

قال السعدي-رحمه الله- في تفسيره عند هذه الآيات:

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب. فالصابرون، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره ([6]). ( قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ) أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها, فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي هو أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجعًا إليه، من أقوى أسباب الصبر. (أُولَئِكَ) الموصوفون بالصبر المذكور (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ثناء وتنويه بحالهم (وَرَحْمَةٌ) عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله. اهـ.

 

 

ونقل ابن كثير-رحمه الله-عن عمر t أنه قال :" نعم العدلان، ونعمت العلاوة ".

وقوله:" نعم العدلان" يقصد: الصلاة، والرحمة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) وقوله:" ونعمت العلاوة" يقصد: الهدى في قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

والعدلان: وهو ما يوضع على جانبي البعير، يعدل كل منهما الآخر، والعلاوة: هي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل ([7])، وكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا. اهـ.  (تفسير ابن كثير:1/285)

وقال بعض السلف وقد عُزِّي على مصيبة نالته، فقال:" مالي لا أصبر، وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها ([8]) ". (عدة الصابرين ص 85)

فالمسلم من استسلم لقضاء الله، وصبر واحتسب ورضي، والمصاب هو من حُرِم الثواب الذي وعد به الملك الوهَّاب في الآية السابقة.

وقد جعل الله عز وجل كلمات الاسترجاع وهي قول المصاب: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ملجأً وملاذًا لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن، إذا لجأ إلى هذه الكلمات الجامعات لمعاني الخير والبركة فإن قوله: (إِنَّا لِلّهِ)إقرار بالعبودية والملك واعتراف العبد لله بما أصابه منه فالملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وعلى العبد أن يعلم أنه مملوك وليس للمملوك في نفسه شيء، وقوله: (وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا، فله الحكم في الأولى وله المرجع في الأخرى، وفيه كذلك رجاء ما عند الله من الثواب.

ولقد وعد الله - تعالى- كل من نزلت به مصيبة فصبر، وحمد الله، واسترجع، أن يخلف عليه في الدنيا خير مما أُخذ منه، مع ما ينتظره في الآخرة من الأجر العظيم والفضل الكبير. فمن بركة الاسترجاع العاجلة:

ما رواه الإمام مسلم من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" ما من مُسلم تُصيبهُ مُصيبة فيقول ما أمره الله: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) اللهم أجرني في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيرًا منها إلا أخلف الله له خيرًا منها " قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله ﷺ، ثُم إني قُلتها، فأخلف الله لي رسول الله ﷺ ".

أما ثمرة الاسترجاع في الآخرة فإن الله تعالى يبني له بيتًا في الجنة ألا وهو بيت الحمد:

فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سنان قال: دفنت ابني سنانًا وأبو طلحة الخولاني جالس عند شفير القبر، فلما فرغت قال: قال رسول الله ﷺ:" إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده ([9])؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد".

فسبحان من ينعم بالبلاء

فليعلم المصاب أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه في ذلك بيت الحمد الذي يبني له في الجنة على حمده واسترجاعه على مصيبته فلينظر أي المصيبتين أعظم، مصيبته العاجلة بفوت محبوبه، أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد؟

فيا من نزلت به مصيبة لفقد حبيب لا تنسى أن تقول: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي بلسم الجروح والآلام والأحزان.

قال سعيد بن جبير-رحمه الله-:" لم يُعط هذه الكلمات نبي قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب-عليه السلام- لما قال: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) (يوسف: ٨٤)

 

قال الأصمعي-رحمه الله-: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها، فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام. قالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم، فقالت: يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا،

فألقت لنا مسحًا ([10])، فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني. ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رفعتها، فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها، فقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل! قالت: ويحك! مات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم ([11])، ودفعت إليه كبشًا، فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها! فلما فرغنا، خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: يا هؤلاء، هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئًا؟

قلت: نعم، قالت: اقرأ من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: ﴿وَبَشِّرِ الصّابِرينَ (155) الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ (156) أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾ (البقرة:155-157)

قالت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا! قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها، وصلت ركعات، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلًا "تقول ذلك ثلاثًا"، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني. (عيون الحكايات لابن الجوزي)

وهذا الموقف تعجز عنه الكلمات في كرم الضيافة، والصبر، والرضا، والاحتساب.

 

2- الصبر من الخصال الحميدة التي يتحلى بها الأنبياء والصالحين:

قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}

(الأنبياء: 86،85)

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات:99-102)

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص:44،41)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف:35)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (ق:39)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طه:130)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (غافر:55)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (غافر:77)

وقال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر:7)

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}

(الطور:49،48)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج :5-7)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (القلم:48-50)

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الإنسان:24)

وقال تعالى لنبيه صالح-عليه السلام-: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} (القمر:27)

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران:17،16)

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب :35)

وقال تعالى: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}

(الأعراف:78)

3- بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:" بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين". ثم تلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (سورة السجدة: 24)

(مدارج السالكين: 2/153، وعدة الصابرين ص 84).

قال سفيان بن عيينة-رحمه الله- في الآية السابقة:" لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا ".

وقال زهير بن نعيم الباني-رحمه الله-:" إن هذا الأمر-أي الإمامة في الدين- لا يتم إلا بشيئين: الصبر واليقين، فإن كان يقينًا ولم يكن معه صبر لم يتم، فإن كان صبرًا ولم يكن معه يقين لم يتم ".

وقال أبو الدرداء t:" مثل اليقين والصبر كمثل فدادين(مزارعين) يحفران الأرض، فإذا جلس واحد جلس الآخر".  (صفة الصفوة:4/7)

4- الصابرون أعد الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيما:

قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ...إلى قوله: ...  أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:35)

وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (هود:11)

 

5- الناس في خسران إلا أهل الصبر والإيمان:

قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

(سورة العصر)

أقسم الله تبارك وتعالى، في كتابه، بالعصر، الذي هو الزمان، وذلك لأن الزمان تقع فيه أعمال الإنسان، من خير وشر، وطاعة ومعصية، ولأن الزمان تقع فيه تصرفات الأحوال، وتبدلاتها، من ليل ونهار، وإظلام وإسفار، وحر وبرد، وغنى وفقر، وأمن وخوف، فتدل هذه التصاريف، على وجود الله تبارك وتعالى، وسعة علمه، وعظيم قدرته، وأنه المعبود الحق، الذي لا معبود يستحق العبادة سواه.

وما دام الله عز وجل قد أقسم بالعصر فلابد أن يكون المقسم عليه شريفًا، والآيات ذكرت أن كل إنسان في خسارة، إلا من استثناه الله عز وجل، فاختاره واصطفاه، وجعله من أهل الفلاح.

قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، والخسارة هنا تكون خسارة تامة كلية، وذلك إذا كفر الإنسان، فلم يدخل في دين الله، الذي هو دين الإسلام، فيكون قد عاش ليزداد إثمًا، وتكون عاقبته النار، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وتكون الخسارة خسارة ناقصة جزئية، وذلك إذا خالف طريقة أهل الاستقامة على طاعة الله، والاستقامة على اتباع سنة رسول الله ﷺ، مع دخوله في الإسلام، فيكون قد فاته من الخير بمقدار بعده عن هذه الاستقامة. ثم استثنى الله عز وجل من الخاسرين، من جمع صفات الخير، فقال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، فهؤلاء هم الذين نجوا من الخسارة، وربحوا رضا الله عز وجل، ودخول جنته، التي أعدها لأوليائه. فهم أهل الإيمان بالله، الذين سلمت قلوبهم من كل شبهة، تعارض خبر الله عز وجل، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلمت قلوبهم من كل شهوة، تخالف أمر الله عز وجل، وأمر رسوله ﷺ. وهم أهل العمل بما يدعو إليه الإيمان، فعملوا الصالحات، من أعمال القلوب، والجوارح، على اختلاف أنواعها، وألوانها. فعمرت قلوبهم بالتوكل على الله، والرجاء فيه، والخوف منه، والرغبة فيما عنده، والرهبة منه، والمحبة والإجلال له، والخشوع والإخبات. وعمرت جوارحهم بالصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقات، والكلمات الطيبات، والسعي في الحاجات، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الناس وبقية المخلوقات. وهم أهل التواصي بالحق والصبر.

قال الإمام الشافعي-رحمه الله-عن سورة العصر:" لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم - وفي رواية:" لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم ".

(انظر: تفسير الإمام الشافعي :3/ 1461)، (مجموع الفتاوى :28/ 152)، (تفسير ابن كثير :1/ 203).

6- الصبر سبيل للفوز بمحبة الله تعالى:

لو لم يكن في الصبر من فضيلة إلا الفوز بمحبة الله تعالي لكفى.

قال تعالى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146)

ومحبة الله لعبده هي أعظم مكسب يحصل للعبد، فإن العبد إذا كان محبوبًا لله، أقبل عليه الخير من كل جهة، واندفع عنه الشر والأذى، وتحققت له سعادة الدنيا والآخرة.

قال ابن ناصر الدين الدمشقي -رحمه الله -:

سبحـان مـــــن ابتلى أُنـاســــــًا       أحبهم والبلا عطــــــــاءُ

فاصبر لبلوي وكن راضيًا       فإن هذا هــــــــو الدواءُ

سلِّم إلـى الله مـا قضــــــــــــاه       ويفعــل الله ما يشــــــاءُ

(برد الأكباد عند فقد الأولاد ص12)

7- الصبر سبيل للفوز بمعية الله تعالى:

قال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46)

قال تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة :153)

قال تعالى: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:66)

قال بعض السلف:" ذهب الصابرون بخيري الدنيا والآخرة، لأنهم نالوا من الله معية الله ".

(عدة الصابرين صـ 134)

وقال أبو علي الدقاق -رحمه الله-:" فاز الصابرون بعز الدارين؛ لأنهم نالوا من الله معيَّته، فإن الله مع الصابرين ". (مدارج السالكين: 2/166)

وهذه المعية تسمى بالمعية الخاصة وهي تتضمن الحفظ والكلأ والرعاية والتأييد والحماية، وتكون لأولياء الله وأحبائه، وهذه المعية غير المعية العامة لكل الخلق- وهي معية العلم والإحاطة- وهي المقصودة بقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الحديد:4)

 

8- علق الله تعالى الفلاح والنجاح على الصبر والتقوى:

فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: ٢٠٠)

فالمصابرة والمرابطة على طاعة الله طريق الفلاح في الدنيا والآخرة.

 

9- أهل الصبر هم أهل العزائم الكُمّل، وأصحاب التجارة التي لا تبور:

قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (سورة الشورى: 43)

قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران:186)

قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

(لقمان:17)

أي: مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها، وقد قيل: الصبر مُرٌّ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ".

قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128)

 

10- وعد الله الصابرين بأن يجازيهم بأَحسن ما كانوا يعملون:

قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)

فهذا قسم من الله تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

(انظر تفسير ابن كثير، وتفسير السعدي عند هذه الآية)

قال أبو يعلى الموصلي:

إني رأيت وفي الأيـــــــام تجربـــــــــة       للصبر عاقبــــة محمــــــودة الأثـــــــــــر

وقـــل من جدَّ في أمـــــر يحاولــــه      واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

(انظر الصبر الجميل لسليم الهلالي ص 15)

 

11- الصبر خير معين على مصائب ومتاعب الحياة الدنيا:

فالله تعالى أرشدنا في كتابه الكريم إذا ضاقت بنا الحياة وحاصرتنا الهموم أن نستعين بالصبر والصلاة، فالصبر والصلاة كليهما خير ما يستعين به المؤمن على مجابهة ما يتعرض له كل يوم من فتن، ومحن، وبلاء، وهما خير سلاح يدرأ به المسلم عن نفسه ما يصيبها من همٍّ، أو غمٍّ، أو حزن لخير فاته، أو سوء أصابه.  فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)

وقال تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة :153)

يقول ابن القيم-رحمه الله-:" فمن لا صبر له؛ لا عون له ".

 

12- وعد الله تعالى الصابرين بحسن العِوض عما فات، والإخلاف عما فُقد:

فإن الله لا يضيع عنده أجر عامل، ولا مثوبة محسن، كيف وقد وعد وعدًا مؤكدًا أنه لا يضيع أجر المحسنين. وهذا يشمل الدنيا والآخرة جميعًا، فهو في الدنيا يُعِّوضهم ويُخلف عليهم خيرًا مما حُرِموا، ويُمَكِّن لهم بعد أن غُلِبوا، وهو في الآخرة يُؤتيهم أجورهم بغير حساب.

يقول تعالى واعدًا المهاجرين في سبيله بحسن العوض عما حُرموا من الوطن والعشيرة: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

(النحل:42،41)

وقد عرفنا في قصة نبي الله أيوب -عليه السلام- كيف صبر على ما أصابه من ضُرٍّ في نفسه وأهله، فانتهي به الصبر إلى أجمل العواقب، وكشف الله عنه ضُره، ووهب له أهله ومثلهم معهم، رحمة من عنده وذكرى للعابدين وعبرة لأولي الألباب. وهذا يؤكد لنا أن الصبر المُرّ لا يُجتنى من ورائه إلا أحلى الثمرات في الدنيا قبل الآخرة. ومن هنا جاء خطاب الله تعالى لرسوله ﷺ في سورة هود إذ يقول {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115) فثمرة الصبر لا تضيع في الأولى ولا في الآخرة.

ويتحدث القرآن على لسان يوسف حين كشف لإخوته عن نفسه فقالوا: { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90)

ويعقب القرآن على موقف يوسف بعد أن استدعاه الملك واستخلصه لنفسه، وقال له في اعتزاز وتكريم {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف:54) يُعَقِّب القرآن فيقول: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (يوسف:57،56)

وقد نبهت الآية الأخيرة إلى أن قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} إنما يُراد به- أولًا وبالذات- أجر الدنيا وجزاء العاجلة، أما أجر الآخرة وثوابها فقد أفادته الآية الثانية: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}.

ومن الوقائع الثابتة التي تدل على أن الله يُعَوّض الصابرين خيرًا مما فقدوا ما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة – رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها، قالَتْ: فَلَمَّا ماتَ أبو سَلَمَةَ، قُلتُ: أيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِن أبِي سَلَمَةَ؟ أوَّلُ بَيْتٍ هاجَرَ إلى رَسولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ إنِّي قُلتُها، فأخْلَفَ اللَّهُ لي رَسولَ اللهِ ﷺ ".

13- كرَّم اللهُ الصبرَ وشرَّفه وذلك بإضافته لنفسه سبحانه:

قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} (النحل:127)

فأضاف الله تعالى الصبر إلى نفسه بعد الأمر به، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر:7)

وإن كان كل شيء في الوجود لا يقوم إلا به سبحانه، وكل عمل صالح لا يكون إلا له، ولكن التخصيص دليل التكريم والتشريف.

 

14- وعد الله تعالى أهل الصبر والتقوى بحسن العاقبة:

يحكي القرآن الكريم على لسان موسى ناصحًا قومه، بعد أن هددهم من التنقيل والتعذيب والتنكيل: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128)

ويخاطب الله تعالى خاتم رسله محمدًا ﷺ بعد أن قص عليه قصة نوح-عليه السلام- مع قومه وابنه وما انتهى إليه أمرهم، ثم يعقب على القصة بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49) وقصص الرسل مع أقوامهم التي حفل بها القرآن تؤكد هذا القانون الإلهي: أن العاقبة لأهل الصبر والتقوى.

 

15- خصال الخير لا يلقاها إلا الصابرون:

نقل القرآن الكريم في قصة قارون قول الذين أوتوا العلم للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون، فقال تعالى:

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص: 80)

وعندما أمر الله تعالى العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه وبينه عداوة كأنه ولي حميم. ثم قال تعالى بعدها مبينًا فضل الصبر: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}

(فصلت: 35)

16- الصابرون لهم البشرى من الله تعالى:

قال تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 155)

وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الحج: 34، 35)

ذكر القرآن أن من أوصاف المخبتين؛ الخشوع والتواضع والطمأنينة والسكينة، وجعل الله الصبر من أجمل حلاهم، وأبرز مزاياهم.

17- الصابرون يوفيهم الله أجورهم بأفضل منها في الدنيا والآخرة:

- فالله تعالى وعد الصابرين بالجزاء الحسن والفضل العظيم في الدنيا، كما وعد المهاجرين في سبيله بحسن العوض عما حرموا من الوطن والعشيرة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:42،41)

- وكما رأينا في قصة نبي الله أيوب -عليه السلام- كيف صبر على ما أصابه من ضُرٍّ في نفسه وأهله، فانتهى به الصبر إلى أجمل العواقب. كما جاء في قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}

(الأنبياء: 84،83)

- وأيضا في قصة يوسف-عليه السلام- حين كشف لإخوته عن نفسه فقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90)

قال التنوخي-رحمه الله-: أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي بِالْبَصْرَةِ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع عَن البرقي، قَالَ: رَأَيْت امْرَأَة بالبادية، وَقد جَاءَ الْبرد فَذهب بزرع كَانَ لَهَا، فجَاء النَّاس يعزونها، فَرفعت طرفها إِلَى السَّمَاء، وَقَالَت: اللَّهُمَّ أَنْت المأمول لأحسن الْخلف، وبيدك التعويض عَمَّا تلف، فافعل بِنَا مَا أَنْت أَهله، فَإِن أرزاقنا عَلَيْك، وآمالنا مصروفة إِلَيْك. قَالَ: فَلم أَبْرَح، حَتَّى جَاءَ رجل من الأجلاء، فَحدث بِمَا كَانَ، فوهب لَهَا خمس مائَة دِينَار. (الفرج بعد الشدة للتنوخي:1/181)

وهذه من بركات الصبر العاجلة، أما في الآخرة فيوفيهم أجورهم بأفضل الجزاء، كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران:185)، كما جاء في قصة يوسف -عليه السلام- حين استدعاه الملك واستخلصه لنفسه، وقال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ }(يوسف:54)  ثم قال رب العالمين بعد أن مُكِّن ليوسف:{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }  (يوسف:57،56)

ففي قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} إنما يراد به الجزاء في الدنيا، إما أجر الآخرة؛ فقد دلت عليه الآية الثانية: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} بل سيوفي الله الصابرين أجرهم يوم القيامة بغير حساب.

 

18- الصابرون يضاعف لهم الأجر والثواب:

قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص:54)

19- ومن فضل الصبر أن الله تعالى قرنه بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها:

فقرنه بالصلاة، كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة: 45).

وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:114، 115)

وقرنه بالأعمال الصالحة، كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (هود: 11)

وجعله قرين التقوى، كقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90)

وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران:120)

وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران:186)

وجعله قرين الشكر، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم: 5)

وجعله قرين الحق، كقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 3)

وجعله قرين الرحمة، كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17)

وجعله قرين اليقين، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24)

وجعله قرين الصدق، كقوله تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} (الأحزاب: 35)

وجعله قرين التوكل، كقوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:42) (العنكبوت:59)

وجعله قرين الجهاد، كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد:31)

وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } (النحل:110)

وجعله قرين التسبيح والاستغفار، كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (غافر:55) وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } (الطور:48)

 

وجعله سببَ محبته ومعيته وعونه ونصره وحسن جزائه، ويكفيه بعض ذلك شرفًا وفضلًا.

 

 

 

 

20- الله تعالى وعد الصابرين بالنصر والظفر:

وهي كلمته التي سبقت لهم، وقد نالوها بالصبر. قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} (الأعراف:137)

 

 

21- الله تعالى جعل الصبر والتقوى جُنَّة عظيمة من كيد العدو ومكره:

قال تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران:120)

فالمؤمنون الصابرون في مأمن رباني، وحصن إلهي من كيد الأعداء ومكرهم.

 

 

22- الصابرين أثنى الله عليهم وزكاهم؛ ووصفهم: بالصدق والتقوى:

قال تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }  (البقرة:177)

وكذلك أثنى الله تعالى على نبيه أيوب -عليه السلام- لأنه كان صابرًا، فقال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص:44) فلما صبر على البلاء أثنى الله عليه وقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ} وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي؛ فإنه بئس العبد.

 

 

23- أخبر الله تعالى أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها أهل الصبر والشكر:

فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم: 5). وقال تعالى في لقمان: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (لقمان: 31). وقال تعالى في قصة سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (سبأ: 19). وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (الشورى: 32، 33). فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن آيات الله تعالى إنما يَنتفع بها أهل الصبر والشكر.

 

24- أخبر الله تعالى أن الصبر خير لأهله، ومن أصدق من الله قيلًا:

قال تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النساء:25)

وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (النحل:126)

فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده، ثم باللام التي في الجواب.

وقد مر بنا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أم سلمة – رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" ما من مُسلم تُصيبهُ مُصيبة فيقول ما أمره الله: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) اللهم أجرني في مصيبتي، وأَخْلِف لي خيرًا منها إلا أخلف الله له خيرًا منها " قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيتٍ هاجر إلى رسول الله ﷺ، ثُم إني قُلتها، فأخلف الله لي رسول الله ﷺ ".

 

25- الله تعالى علَّق النصر والمدد على الصبر والتقوى:

قال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ}

(آل عمران: ١٢٥)

ففي الآية علق الله تعالى النصر والمدد على الصبر والتقوى، والنبي يؤكد على هذا فيقول:" واعلم أن النصر مع الصبر ".  (رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- وهو في صحيح الجامع:6806)

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:66،65)

 

26- أهل الصبر والمرحمة هم أصحاب الميمنة:

قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (البلد:18،17)

وهذا أيضًا فيه تزكية لأهل الصبر، لأنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة، والناس بالنسبة للصبر والمرحمة ينقسمون إلى أربعة أقسام: الأول وهو خير الأقسام: من جمع بين الصبر والمرحمة، والثاني: من لا صبر له ولا رحمة فيه -وهو أشرهم-، والثالث: من له صبر ولا رحمة عنده، والرابع: من عنده رحمة ولكن لا صبر له، فمن جمع بين الصبر والمرحمة؛ فهو من أصحاب الميمنة.

 

27- الصابرون يوفيهم الله أجورهم يوم القيامة بغير حساب:

قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: ١٠)

قال الأوزاعي -رحمه الله-:" ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا. (تفسير ابن كثير:7/90)

وقال سليمان بن القاسم-رحمه الله-:" كل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) قال: كالماء المنهمر. (عدة الصابرين ص85)

فكل طاعة لها أجر معلوم، وثواب مقدور، إلا الصبر فإنه يغرف لأهله غرفًا، فلا تنظر إلى سوء الحال، ولكن تأمل جميل المآل.

قال ابن جزي-رحمه الله- في كتابه التسهيل: ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وذلك لعظمة موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلّا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

 

وقال السعدي -رحمه الله-: وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وهذا عام في جميع أنواع الصبر، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب، أي: بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معين على كل الأمور. اهـ.

 

28- الصبر سبيل للفوز والنجاة في الآخرة:

قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون :109-111)

 

29- الملائكة تسلم على الصابرين في الجنة جزاء صبرهم:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)22 (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ)23( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: ٢٢ – ٢٤)

قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-:" صبروا عما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه ".

 

30- الصابرون ليس لهم جزاء إلا الجنة:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (العنكبوت: 59،58)

وقال تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران:15-17)

وقال تعالى: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (الإنسان:12)

وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}

(الفرقان:76،75)

يقول أبو طالب المكي-رحمه الله-:" اعلم أن الصبر سبب لدخول الجنة والنجاة من النار؛ لأنه جاء في الخبر:" حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ". اهـ.

فيحتاج المؤمن إلى الصبر على المكاره ليدخل الجنة، وإلى صبر عن الشهوات لينجو من النار ".

 

31- الصابرون يسكنون الغرف في أعلى درجات الجنة:

قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)58(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (العنكبوت: ٥٨، ٥٩)

 

فاعلم ... أن الصبر هو الدواء الناجع لكل بلية، وهو الترياق النافع لكل رزية، وهو السلاح الماضي الذي لا ينبو ولا يثلم، وهو الجنة الحصينة التي لا تهدم، ويكفي أن صاحبه يظفر بمعية الله، ولو لم يكن في الصبر من فضيلة إلا الفوز بمحبة الله لكفي بها فضيلة فقد قال تعالى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: ١٤٦ )

وجعل الله تعالى الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، وعلق الله تعالي الفلاح على الصبر والتقوى، وجعل الصبر كله خير، وجعل لأهل الصبر البشرى في الدنيا والآخرة، ووعدهم بمضاعفة الأجر، وأخبرهم أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب، وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار من نصيب الصابرين.

 

 

ثانيًا: فضائل الصبر في السنة النبوية المباركة:

1- أفضل ما يهب الله للإنسان نعمة الصبر:

فقد أخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة t أن النبي ﷺ قال:" ما رُزقَ عبدٌ خيرًا له ولا أَوسعَ من الصبرِ". (صحيح الجامع: 5626) (الصحيحة:448)

يقول المناوي-رحمه الله- في" فيض القدير: 5/447" في شرحه لهذا الحديث:

" لأنه إكليلٌ للإيمان، وأوفر المؤمنين حظًا من الصبر أوفرهم حظًا من القرب من الرب. والصبر رزق من الله لا يستبد العبد بكسبه، وما يضاف إلى كسب العبد هو التصبُّر، فإذا حمل على نفسه التصبر أمده الله بكمال الصبر، وفي الخبر "من يتصبر يصبره الله " فإذا رزقه الصبر كان أوسع من كل نعمة واسعة؛ لأنه يُسهل بالصبر جميع الخيرات وترك المنكرات وتحمل المكروهات المقدرات والرزق المشار إليه رزق الدين والإيمان ". اهـ

 

2- من يتكلف الصبر يرزقه الله إياه، ويكون له سجية وطبع حيث لا يشق عليه:

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري t أن رسول الله ﷺ قال:"... ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر ".

- وفي رواية:" ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".

والتصبر هو تكلف الصبر، والمعنى: فإذا صبَّرت نفسك وألزمتها ذلك، صار ذلك سجية لها لا يشق عليها.

وقال السندي-رحمه الله- في" حاشيته على النسائي: 5/96":" أي يتكلف في تحمل مشاق الصبر، وفي التصبُّر بباب التكلف إشارة إلى أن تكملة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار وتحمل المشاق من الإنسان ". اهـ

وقال المباركفوري-رحمه الله- في تحفة الأحوذي:6/170":" أي يطلب توفيق الصبر من الله تعالي؛ لأنه قال تعالي: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ} (النحل:127) أو يأمر نفسه بالصبر ويتكلف في التحمل عن مشاقه.

وقوله: "يصبره الله"، قال السندي: من التصبير أي جعله صابرًا. اهـ

وقال المباركفوري-رحمه الله-: أي يسهل عليه الصبر. اهـ

وقال القاري-رحمه الله-: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات؛ ولذا قُدِّم على الصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (البقرة:45)

ومعنى كونه أوسع أنه تتسع به المعارف والمشاهد والأعمال والمقاصد اهـ.   (تحفة الأحوذي: 6/170)

3- الصبر ضياء:

فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي مالك الأشعري t أن النبي ﷺ قال:" الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماء والأرض، الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياءٌ، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".

قال النووي -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث :3/103":" المراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب ". اهـ.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في "جامع العلوم والحكم:2/ 24":

وأما الصبر؛ فإنه ضياء، والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق؛ كضياء الشمس، بخلاف القمر؛ فإنه نور محض، فيه إشراق بغير إحراق؛ قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا) (يونس: 5). ومن هنا: وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء؛ كما قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ) (الأنبياء: 48)، وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا؛ كما قال: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (المائدة: 44)؛ ولكن الغالب على شريعتهم الضياء؛ لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال. ووصف شريعة محمد ﷺ بأنها نور؛ لما فيها من الحنيفية السمحة؛ قال تعالى: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة: 15)، وقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157). ولما كان الصبر شاقا على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها، وكفها عما تهواه؛ كان ضياء؛ فإن معنى الصبر في اللغة: الحبس، ومنه قتل الصبر: وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل". اهـ.

وقيل: قوله " ضياء" يعني في ظلمة القبر، لأن المؤمن إذا صبر على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، وعن المعاصي فيها جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته.

 

4- السعيد من رزقه الله نعمة الصبر:

فقد أخرج أبو داود عن المقداد t قال: قال رسول الله ﷺ:" إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، ولمن ابتُلِيَ فصبر ".  (صحيح الجامع 1637)

 

 

5- أفضل الإيمان: الصبر والسماحة:

فقد أخرج الإمام أحمد من حديث عمرو بن عبسة  tقال: أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، من معك على هذا الأمر؟ قال:" حر وعبد." قلت: ما الإسلام؟ قال:" طيب الكلام، وإطعام الطعام". قلت: ما الإيمان؟ قال:" الصبر والسماحة([12])". قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال:" من سلم المسلمون من لسانه ويده" قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال:" خلق حسن ". قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال:" طول القنوت "، قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال:" أن تهجر ما كره ربك "، فقلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال:" من عقر جواده([13])، وأهريق دمه([14])". قلت: أي الساعات أفضل؟ قال:" جوف الليل الآخر ".

ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن جابر t قال:" قيل: يا رسول الله! أي الإيمان أفضل؟، قال:

" الصبر والسماحة ".

قال ابن القيم -رحمه الله-:" وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانًا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه الصبر ".

 

6- من رُزق الصبر؛ رزقه الله الرضى وراحة البال:

فقد أخرج البخاري معلقًا في كتاب التفسير عن علقمة -رحمه الله- أنه قال في قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن:11) قال:" هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضَى ويُسَلِّم ".

وقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ثابت البناني -رحمه الله- قال: أن صلة بن أشيم كان في غزاة هو وابن له، فقال لابنه: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك عند الله، فحمل فقاتل حتى قُتِل، ثم تقدم صلة فقُتِل، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية؛ فقالت: مرحبًا إن كنتن جئتن لتهنيني فمرحبا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. (تسلية أهل المصائب ص35)

فمن صبر على البلاء والمصيبة انقلبت محنته منحةً عظيمة، واستحالت بليته عطية جسيمة، وصار ما كرهه محبوبًا، وللأجور العظيمة حائزًا مصيبًا. ولذلك جاء في وصية النبي ﷺ لابن عباس-رضي الله عنهما- كما عند الإمام أحمد:" واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا ".

 

 

7- من رُزق الصبر؛ فقد رزقه الله الخير الكثير:

قال تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النساء:25)

وأخرج الترمذي من حديث عثمان بن حنيف t أنَّ رجلًا ضريرَ البَصرِ أتى النَّبيَّ ﷺ فقالَ: ادعُ اللَّهَ أن يعافيَني قالَ النبي ﷺ:" إن شئتَ دعوتُ، وإن شِئتَ صبرتَ فَهوَ خيرٌ لَكَ،... ".

(صحيح الترمذي:3578) (صحيح الجامع:1290)

الشاهد هو قول النبي ﷺ:" وإن شِئتَ صبرتَ فَهوَ خيرٌ لَكَ ".

وأخرجه ابن خزيمة والطبراني والحاكم في المستدرك عن عثمان بن حنيف t بلفظ:" أنَّ رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا نبيَّ اللهِ ادعُ اللهَ أنْ يعافيَني. فقال: إنْ شئْتَ أخرْتُ ذلك فهوَ أفضلُ لآخرتِكَ، وإنْ شئْتَ دعوْتُ لكَ قال: لا بلْ ادعُ اللهَ لي. فأمرَهُ أنْ يتوضأَ وأنْ يصليَ ركعتينِ وأنْ يدعوَ بهذا الدعاءِ: اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمدٍ ﷺ نبيِّ الرحمةِ، يا محمدُ إنِّي أتوجَّهُ بكَ إلى ربِّي في حاجَتي هذه فتَقضى، وتُشفعُني فيه وتشفعُهُ فيَّ. قال: فكان يقولُ هذا مرارًا، ثم قال بعدُ - أحسبُ أنَّ فيها: أنْ تُشفعَني فيه - قال: ففعلَ الرجلُ فبرأَ([15]) ".

 

وأخرج الإمام مسلم من حديث صهيب t قال: قال رسول الله ﷺ:" عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ".

وفي رواية:" عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له ".

فإن الله تعالى إنما خلق خلقه للابتلاء والامتحان، فيستخرج منهم عبودية السراء وهي الشكر، وعبودية الضراء وهي الصبر، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد، حتى يتبين صدق عبوديته لله تعالى، وإذا كان المرء مؤمنًا حقًا فإن كل أمره خير، فإنه إن كان في سراء شكر فكان خيرًا له، وإن كان في ضراء صبر فكان خيرًا له.

 

8- الصبر يكون على قدر البلاء:

وهذا من نعم الله على العبد؛ أنه سبحانه يُنزل عليه الصبر بقدر احتسابه على البلاء.

فقد أخرج البزار بسنده أن النبي ﷺ قال:" إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ".    (الصحيحة 1664)

 

9- بالصبر ينال الإنسان مراده:

ليس هناك سلاح أجدى نفعًا من الصبر، إذ به تهون كل المصاعب، فهو طريق النجاح، وسلم الفلاح في الدنيا والآخرة، وما تحلى به عابد إلا وصل، وما تمسك به أحد إلا ظفر وتحققت أغراضه، لولاه ما جنى الزارع ثماره، ولا نال طالب شهادة، ولا توصل باحث إلى مراده، فقوام النجاح وعماد الفلاح هو الصبر، وهو سبيل الارتقاء إلى الدرجات العُلى في الحياة وبعد الممات.

قال أحدهم:

الصبر مثل اسمه، مر مذاقته       لكن عواقبه أحلى من العسل

(مدارج السالكين:2/158)

وقال آخر:

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكلُه     لنْ تبلغَ المجدَ حتَّى تلعقَ الصَّبْرَ

وقال محمد بن يسير-رحمه الله-:

إن الأمـــــــــور إذا انســــدت مسـالـكهـــــــــــــــــــــا       فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجــا([16])

لا تيــــــــأسن وإن طـالــــــــــت مطــــــــالـبــــــــــــــــــه       إذا استعنت بصبر أن تــــــرى فرجـــا

أخلق([17])بـذي الصبر أن يحظى بحاجتــه            ومدمـــن القـــرع للأبـواب أن يلجــــــــا

وقـــــــل مـــــــــن جـــــدَّ في أمـــــــر يحــــــاولــــــــــــه       واستصحب الصبر إلا فاز بالظفـــر

(أدب الدنيا والدين ص 458)

 

 

 

 

 

 

 

 

10- النصر لا يكون إلا مع الصبر:

فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنتُ رديفَ رسولِ اللَّهِ ﷺ فقالَ:" يا غلَّامُ - أو يا بنيَّ - ألا أعلِّمكَ كلماتٍ ينفعكَ اللَّهُ بهنَّ؟ فقلتُ: بلى فقالَ:" احفظِ اللَّهَ يحفظكَ، احفظِ اللَّهَ تجدهُ أمامَكَ تعرَّف إليهِ في الرَّخاءِ يعرفُكَ في الشِّدَّةِ إذا سألتَ فاسألِ اللَّهَ وإذا استعنتَ فاستعن باللَّهِ قد جفَّ القلمُ بما هوَ كائنٌ فلو أنَّ الخلقَ كلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفعوكَ بشيءٍ لم يقضهِ اللَّهُ لكَ لم يقدروا عليهِ وإن أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضهِ اللَّهُ عليكَ لم يقدروا عليهِ فاعمل للَّهِ بالشُّكرِ واليقينِ واعلم أنَّ الصَّبرَ على ما تكرهُ خيرٌ كثيرٌ وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ وأنَّ معَ العسرِ يسرًا ".

وقفة مع قول النبي ﷺ: " وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ".

جاء في كتاب "الفوائد" لابن القيم- رحمه الله- ص269 ما نصه:" سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يُمكَّن فيشكر، أو يُبتلى فيصبر؟ فقال الشافعي: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة".

وصدق الله تعالى حيث قال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (الأنعام:34)

 

11- الصابر المحتسب له أجر شهيد:

فقد أخرج البخاري من حديث عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها- أنَّهَا سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ، فأخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ:" أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا[محتسبًا]، يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ ".

 

12- الصابر في زمن الفتن والشهوات له أجر خمسين شهيدًا من الصحابة:

فقد أخرج الطبراني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:" إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ زَمَانَ صَبْرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِ أَجْرُ خَمْسِينَ شَهِيدًا"، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "مِنْكُمْ ". (صحيح الجامع:2234)

وفي رواية أبي ثعلبة الخشني t:" قيل يا رسولَ اللهِ أجرُ خمسين رجلًا منا أو منهم قال بل أجرُ خمسين منكم ". (صحيح الترغيب: 3172)

وفي رواية عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ أَخِي بَنِي مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ:" إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: " بَلْ مِنْكُمْ ".

(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة:494).

13- الصبر جزاؤه الجنة:

فقد أخرج البخاري ومسلم عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس -رضي الله عنهما-:

" ألا أريك امرأة من أهل الجنّة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأةُ السوداءُ أتت النبي ﷺ فقالت: إنّي أصرعُ وأتكشّف، فادع اللَّه لي. قال: "إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ اللَّه أن يعافيَك"، قالت: أَصْبر. فقالت: إني أتكشفُ فادعُ اللَّه ألا أتكشّف ".

قال ابن حجر-رحمه الله-:" في هذا الحديث أن الصبر على البلاء يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه جواز ترك التداوي، وأن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنفع من العلاج بالعقاقير". اهـ.

 

أخرج البخاري ومسلم  من حديث أنس بن مالك t قال: قال رسول الله ﷺ:" حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ ". - وفي رواية:" حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ ".

فكيف يدخل الإنسان منا الجنة بدون صبر على المكاره؟ وكيف يقي نفسه النار دون صبر عن الشهوات؟

وتجد في هذا الحَديثِ أن رَسول اللهِ ﷺ يُخبِرُ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قدْ حَجَبَ النَّارَ وسَتَرَها بالشَّهَواتِ؛ فلا يُوصَلُ إلى النَّارِ إلَّا بتَعاطي الشَّهَواتِ؛ إذْ هي مَحجوبةٌ بها، فمَن هَتَكَ الحِجابَ وَصَلَ إلى المَحجوبِ ووَقَعَ فيه. وقدْ حَجَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الجَنَّةَ بالمَكارِه، والمُرادُ بالمكارِهِ ما أُمِرَ المُكلَّفُ به؛ كمُجاهَدةِ النَّفْسِ في العِباداتِ، والصَّبرِ على مَشاقِّها، والمُحافَظةِ عليها، واجتِنابِ المَنهيَّاتِ، وكَظْمِ الغَيظِ، والعَفْوِ والحِلْمِ، والصَّدَقةِ، والإحسانِ إلى المُسيءِ، والصَّبرِ عن الشَّهَواتِ، ونَحوِ ذلك. وأُطلِقَ عليها مَكارِهُ؛ لِمَشَقَّتِها على العامِلِ، وصُعوبَتِها عليه. وفي هذا تَحذيرٌ مِن اتِّباعِ الشَّهَواتِ، وحَثٌّ على الصَّبرِ على المَكارِه؛ لِأنَّه الطَّريقُ إلى الجَنَّةِ. وفي الحديث: الأمرُ بالابتعادِ عن الشَّهواتِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى النَّارِ، والصَّبرِ على المَكارهِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى الجنَّةِ.

 

- وأخرج البخاري عن أنس t قال: سمعت رسول الله ﷺ  يقول:" إن الله U قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ([18]) فصبر عوضته منهما الجنة ".

 

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن زيد بن أرقم t قال: رمدت عيني فعادني رسول الله ﷺ في الرمد، فقال:"  يا زيد بن أرقم إن كان عينك لما بها ([19]) كيف تصنع؟ فقلت: أصبر وأحتسب، قال:"  يا زيد بن أرقم إن كان عينك لما بها ثم صبرت واحتسبت دخلت الجنة ".

- وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة t أن رسول الله قال: يقولُ اللَّهُ تَعالَى:" ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ ".

وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ رَسولُ اللهِ ﷺ عن اللهِ عزَّ وجلَّ أنَّه ليس للِعَبْدِ المؤمِنِ عِندَ اللهِ سُبحانَه جَزاءٌ وثَوابٌ وأجرٌ، إذا قبَضَ ونزعَ رُوحَ صَفِيِّه، وهو الحبيبُ المُصافي؛ كالولدِ والأخِ وكلِّ مَن أحَبَّه الإنسانُ،" مِن أهلِ الدُّنيا ثمَّ احتسَبَه "، أي: صبَرَ على ذلك راجيًا الثَّوابَ مِن اللهِ سُبحانَه؛" إلَّا الجنَّةُ ".

(انظر فتح الباري:11/242)

وأخرج الترمذي عن أبي سنان قال: دفنت ابني سنانًا وأبو طلحة الخولاني جالس عند شفير القبر، فلما فرغت قال: قال رسول الله ﷺ:" إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده([20])؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد"

 

فسبحان من ينعم بالبلاء.

فليعلم المصاب أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه في ذلك بيت الحمد الذي يبني له في الجنة على حمده واسترجاعه على مصيبته فلينظر أي المصيبتين أعظم، مصيبته العاجلة بفوت محبوبه، أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد؟

 

فنعم للصبر ولا للجزع:

وليعلم المبتلى أن الجزع لا يرد المصيبة ولا يرفعها؛ بل يضاعفها، وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته. بل لا بد أن يعلم المُبتلى أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضيق نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه.

تنبيه: هذا الجزاء الذي وعد به الملك الوهاب في الأحاديث السابقة؛ يكون لمن صبر عند الصدمة الأولى.

فقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي أمامة t أن النبي ﷺ قال:" يقول الله سبحانه: ابن آدم! إن صبرتَ واحتسبتَ عند الصدمة الأولى؛ لم أرض لك ثوابًا دون الجنة ". (صحيح الجامع:8243)

قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم.

إذا أنت لم تسلُ اصطبارًا وحسبة      سلوت على الأيـام مثل البهائم

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس t قال:" مر النبي ﷺ بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ﷺ - فأتت باب النبي ﷺ فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال:" إنما الصبر عند الصدمة الأولى ".

جاء في شرح السنة :5/148": والصبر المحمود والمأجور عليه صاحبه هو ما كان عند الصدمة الأولى فور مفاجأة المصيبة وحموتها لأنه إذا طالت الأيام وقع السلو، ونقص الأجر أو لم يؤجر. ودل على ذلك الحديث السابق. اهـ.

وصدق الشاعر حيث قال:

ما أحسن الصبر في موطنه       الصبر في كل موطن حسن

حسبك مـــــن حسنــــة عواقـبــه        عـاقبـــة العبــــد مـا لهــــا ثمــــــن

قال ابن القيم- رحمه الله-: كل أحدٍ لابد أن يصبر على بعض ما يكره: إما اختيارًا وإما اضطرارًا، فالكريم يصبر اختيارًا لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر لم يرد عليه الجزع فائتًا ولم ينتزع عنه مكروهًا، وإن المقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله فالجزع ضره أقرب من نفعه فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.

ويعلم المبتلى كذلك أن ما يعقبه الصبر والاحتساب، من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، وقد أخرج الترمذي بسنده أن النبي ﷺ قال:" يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطي أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض ". (صحيح الجامع:8177)

وفي رواية:" يود ناس لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء."

فالجزع وإن بلغ غايته ونهايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثاب عليه، فإنه استسلم للقدر رغم أنفه والصبر والاحتساب عواقبه محمودة ومثاب عليه في الدنيا والآخرة.

 

وبعد...فهذه بعض أحاديث رسول الله ﷺ فلعل فيها سلوى لكل مبتلى صابر، ولعلها فيها كشف لكربته، فيحتسب مصيبته ويرضى بما قسمه الله له، فلعل له عند الله منزلة لا يبلغها بعمله. فما يزال الله يبتليه بحكمته بما يكره، ويصبره على ما يبتليه حتى يبلغه تلك المنزلة التي سبقت له من الله، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود أن النبي ﷺ قال:" إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده [قال أبو داود: زاد نُفيل:" ثم صبره على ذلك] حتى يُبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى ".

 

سؤال يبحث عن إجابة: هل المؤمن يثاب ويؤجر على المصيبة أم على الصبر عليها والرضا؟

اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه لا ثواب للمصاب إلا على الصبر، واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)

ويجيب عن هذا سلطان العلماء العز بن عبد السلام-رحمه الله- فيقول:" أنه لا يؤجر على المصائب؛ لأن الأجر يكون من الكسب، والمصائب ليست من الكسب، بل الأجر على الرضا والصبر". اهـ.

أي أن الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه، وقد قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (سورة البقرة: 156، 157)

فما حصل من صلاة ورحمة وهداية إنما هو بسبب استرجاعهم.

وكذلك حديث أبي طلحة الخولاني t أنه قال: قال رسول الله ﷺ:" إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد ".

وحكي الخطابي-رحمه الله- عن غيره:" إن المرء لا يؤجَر على المصيبة؛ لأنها ليست من صُنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره ".

وكذلك قال القرطبي-رحمه الله- في المفهم:" إنه لابد من الصبر والاحتساب على المصيبة حتى يؤجر العبد، واستدل بقول الله تعالي: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}

(سورة البقرة: 155، 156)

القول الثاني: إن المصاب يثاب على كل مصيبة تنزل به، واستدلوا بقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}

(التوبة:120)

وعند البخاري أن النبي ﷺ قال:" ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ".

وقد تعقب ابن حجر -رحمه الله- القرطبي فقال:" الأحاديث صحيحة صريحة في حصول الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة ".

وقال القرافي -رحمه الله-: " المصائب كفارات جزمًا، سواء اقترن بها الرضا أم لا، ولكن إذا اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل ". اهـ.

والتحقيق: إن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك بالثواب بما يوازيه.

فالمصائب كفارات للذنوب.

فقد أخرج البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي ﷺ قال:" ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها ".

أما الأجر والثواب فلا يكون إلا مع الصبر والرضا.

فقد أخرج البخاري عن أنس t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله U قال:" إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة ـ يريد عينيه ".

وعند مسلم أن النبي ﷺ قال:" عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في" مجموع الفتاوى :10/124":

المصائب التي تجري بلا اختيار العبد: كالمرض، وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله، إنما يثاب على الصبر عليها، لا على نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة يكفر بها خطاياه، فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية وما يتولد منها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أقوال السلف عن الصبر:

- قال عمر بن الخطاب t:" أدركنا خير عيشنا الصبر ".

(الزهد لابن المبارك 1/222) (الدر المنثور للسيوطي:1/163) (أبو نعيم في الحلية:1/50)

يعني ما طابت الحياة إلا بالصبر؛ مع ما فيها من المنغصات والشدائد، فالصبر هو العمل القلبي الذي تطيب معه الحياة ولا تطيب بغيره.

وفي رواية له أنه قالt :" أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا ".

(عدة الصابرين ص 111) (ابن أبي الدنيا في "الصبر" رقم47) (سنده ضعيف)

 

- وقال علي t:" ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قُطع الرأس بار الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ". (عدة الصابرين ص 111) (سنده ضعيف)

وقال أيضًا:" الصبر مطية لا تكبو ". (المصدر السابق) (سنده ضعيف)

وروي عنه t أنه لما بلغه وفاة أبي بكر الصديق t قال:" رضينا عن الله قضاه، وسلمنا له أمره، إنا لله وإنا إليه راجعون ".

 

- وقال عبد الله بن مسعودt :" الصبر نصف الإيمان، والإيمان اليقين كله ".

(المعجم الكبير للطبراني: 9/107) (الزهد لوكيع بن الجراح:2/456) (صحيح الترغيب والترهيب:3397)

وقال أيضًا:" الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر". (عدة الصابرين ص 128)

 

- وقال الحسن -رحمه الله-: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده ".

(المصدر السابق) (تسلية أهل المصائب ص151)

وقال أيضًا: " ما جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة، ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر، وجرعة غيظ ردها بحلم ".  (عدة الصابرين ص 114)

 

- وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:" ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، إلا كان ما عوضه خيرًا مما انتزعه ". (المصدر السابق)

 

- مر بنا قول سفيان بن عيينة -رحمه الله-عند قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا.

 

- وقال عمرو بن بكير-رحمه الله-:

صبرت فكان الصبر خير مغبة        وهـــــل جـــــزع يجـــــــدي علي فأجــــزع

ملكت دموع العين حتى رددتهــا           إلى ناظري فالعين في القلب تدمع

(عدة الصابرين ص115)

- قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن جعفر بن مهران قال: قالت امرأة من قريش:

أما والذي لا خلــــد إلا لوجهـــــــه       ومن ليس في العز المنيع له كفو

لئن كان بدء الصبر مرًا مذاقه       لقـــد يجني مـــن غبـــه الثمـر الحلو

 

- قال عون بن عبد الله -رحمه الله-:" الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة".

 

- قال يونس بن زيد -رحمه الله-:" سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهي الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة، مثل قبل أن تصيبه ". (الدر المنثور للسيوطي:1/378)

 

- وسئل الجنيد-رحمه الله-عن الصبر فقال:" هو تجرع المرارة من غير تعبس ".

 

 

- قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قوله تعالى:(سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)

قال: صبروا عما أمروا به، وصبروا عما نُهوا عنه.                                                 (الرعد: ٢٤)

 

- قال الثوري-رحمه الله-عن بعض أصحابه:" ثلاث من الصبر: ألا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك ". (تفسير ابن كثير:3/489)

 

- قال مجاهد-رحمه الله- في قوله تعالى:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (يوسف: 18) أي في غير جزع ".

 

- وقال حبان بن أبي جبلة -رحمه الله- وقوله:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي لا شكوى فيه ".

 

- قال ميمون بن مهران -رحمه الله-:"الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المصيبة ".

وقال أيضًا:" ما نال أحد شيئًا من ختْم الخير فما دونه إلا بالصبر ".

 

- وقال بعضهم:" أقدعوا هذه النفوس فإنها متطلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرأً، جعل لنفسه خطامًا وزمامًا، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه ".

 

- قال ذو النون -رحمه الله- عن الصبر:" هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة ".  (بصائر ذوي التمييز:3/377)

 

- وكان محمد بن شبرمة -رحمه الله- من الصابرين، وكان إذا نزل به بلاء قال:" سحابة صيف ثم تنقشع ". (عدة الصابرين ص115)

- وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها؛ وكان مكتوب فيها:( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور:48) (عدة الصابرين ص 115)

 

- قيل للأحنف بن قيس-رحمه الله-: ما الحلم؟ قال:" أن تصبر على ما تكره قليلًا ". (المصدر السابق)

 

- قال أحدهم:" إن الصبر لله غناء، والصبر بالله بقاء، والصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله جفاء، والصبر على الطلب عنوان الظفر، وفي المحن عنوان الفرح ".

 

- قال بعض الحكماء: " من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم ".

 

- قال الفيروز آبادي-رحمه الله-:" والصبر: هو الوقوف مع البلاءِ بُحسن الأدب، وقيل: هو الفناء في البلوى، بلا ظهور شكوى، وقيل: المقام مع البلاء بحسن الصحبة، كالمقام مع العافية ".

(بصائر ذوي التمييز:3/378)

- قال الحريري-رحمه الله-: والصبر ألا تفرق بين حال النعمة وحال المحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر: السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة ". (المصدر السابق)

 

 

قال ابن الجوزي-رحمه الله-:" صُبّ في القنديل ماء ثم صُبّ عليه زيت، فصعد الزيت على سطح الماء، فقال الماء: أنا الذي سقيت شجرتك فأين الأدب؟ لم ترتفع عليّ؟ فقال الزيت: لأنك بينما كنت في باطن الأرض تجري على طريق السلامة، صبرتُ أنا على العصر وطحن الرحا، وبالصبر يرتفع القدر، فقال الماء: ألا إني أنا الأصل، فقال الزيت: استر عيبك؛ فإنك لو لامست شعلة المصباح انطفأ ". (المدهش ص 196)

 

 

- قال ابن القيم -رحمه الله-: سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - قدس الله روحه ونوَّر ضريحه - مرارًا يقول: ذكر الله الصبرَ الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فالصبرُ الجميل الذي لا شكوى معه، والهجر الجميل الذي لا أذى معه، والصفح الجميل الذي لا عتاب معه."

(عدة الصابرين ص 115) (مدارج السالكين:2/167)

 

صبر يُلحقُكَ بالملائكة...... قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- كما في" عدة الصابرين ص 18":

" الإنسان منا إذا غلب صبره باعث الهوى والشهوة، التحق بالملائكة، وإن غلب باعث الهوى والشهوة صبره، التحق بالشياطين، وإن غلب باعث طبعه– من الأكل والشرب والجماع – صبره، التحق بالبهائم. قال قتادة: خلق الله سبحانه الملائكة عقولًا بل شهوات، وخلق البهائم شهوات بلا عقول، وخلق الإنسان وجعل له عقلًا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو مع الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو كالبهائم ".

 

 

وقال أيضًا في" نفس المصدر ص 49 ":" وأمَّا اللَّئيم فإنَّه يصبر اضطرارًا؛ فإنَّه يحوم حول ساحة الجزع، فلا يراها تُجْدِي عليه شيئًا، فيصبر صبر الموثَق للضَّرب، وأيضًا فالكريم يصبر في طاعة الرَّحمن، واللَّئيم يصبر في طاعة الشَّيطان، فاللِّئام أصبر النَّاس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقلُّ النَّاس صبرًا في طاعة ربِّهم، فيصبر على البذل في طاعة الشَّيطان أتمَّ صبرٍ، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء، ويصبر في تحمُّل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوِّه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربِّه، ويصبر على ما يُقَال في عرضه في المعصية، ولا يصبر على ما يُقَال في عرضه إذا أُوذِي في الله، بل يفرُّ مِن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر خشية أن يتكلَّم في عرضه في ذات الله، ويبذل عرضه في هوى نفسه ومرضاته، صابرًا على ما يُقَال فيه، وكذلك يصبر على التَّبذُّل بنفسه وجاهه في هوى نفسه ومراده، ولا يصبر على التَّبذُّل لله في مرضاته وطاعته، فهو أصبر شيء على التَّبذُّل في طاعة الشَّيطان ومراد النَّفس، وأعجز شيء عن الصَّبر على ذلك في الله، وهذا أعظم اللُّؤْم، ولا يكون صاحبه كريمًا عند الله ولا يقوم مع أهل الكَرَم إذا نُودِي بهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ليَعلم أهل الجمع مَن أَوْلَى بالكرم..". اهـ.

 

وقال أيضًا في" نفس المصدر ص 32 ":

وقيل الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب، والصبر والجزع ضدان، ولهذا يقابل أحدهما بالآخر.

قال تعالى عن أهل النار: {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: ٢١) والجزع قرين العجز وشقيقه، والصبر قرين الكيس(العقل) ومادته، فلو سُئل الجزع من أبوك؟ لقال: العجز. ولو سُئل الكيس من أبوك؟  لقال: الصبر. والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطية، فإن لم يكُ للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. اهـ.

 

يا صاحب الهم إن الهم منفرج             أبشـــــر بخيـــــــــر فـــــــإن الفـارج الله

اليأس يقطـع أحيــــانًا بصاحبـــــــــه             لا تيــــأســـن فـــــــــــإن الكـافـــــي الله

إذا بُلـيت فثق بالله وارض بـــــــــه             فإن الـــــذي يكشف البلوى هو الله

الله يُحــدث بعــــــد العسر ميسـرة              لا تجــــــــزعن فـــــــإن الصـانــــــع الله

والله مــــا لك غير الله من أحـــدٍ               فحسـبك الله فـــي كـــــــــــلٍّ لـك الله

 

 

 

أنواع الصبر:

والصبر نوعان: اختياري واضطراري، والاختياري أكمل من الاضطراري.

فالصبر الاختياري- المتعلق بالتكليف وهو الأمر والنهي-أفضل من الصبر الاضطراري- أي الصبر على أقدار الله تعالى-لأنه لابد لكل أحد من الصبر على القدر اختيارًا أو اضطرارًا، فأما الصبر على الأوامر والنواهي فهو صبر أتباع الرسل، وأعظمهم اتباعًا أصبرهم في ذلك.

قال ابن تيمية -رحمه الله-:" كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا تكسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار، ومحاربةٌ للنفس ". (مدارج السالكين: 2/156)

وقال ابن القيم -رحمه الله- في" المدارج أيضا :2/169":" الصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على أقداره، فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة، والصبر على أحكامه الكونية صبر ضرورة، وبينهما من البون ما قد عرفت، وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام-، على ما نالهم في الله، باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم – أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله، من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله. وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم -عليهما السلام- على تنفيذ أمر الله – أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف ".

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-يقول:" الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية ". اهـ

 

أقسام الصبر باعتبار متعلقه:

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه " مدارج السالكين: 1/165 ":" والعبد باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها ". اهــ

والعبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال: بين أمر يجب عليه امتثاله، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وهو لا ينفك عن هذه الثلاث مادام مكلفًا: وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منها. وهذه الثلاثة هي التي أوصى بها لقمان ابنه في قوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (لقمان: 17).

بالإضافة إلى أن الصبر في اللغة هو الحبس والمنع، فيكون معناه حبس النفس على طاعة الله، وحبس النفس ومنعها عن معصية الله، وحبس النفس إذا أصيبت بمصيبة عن التسخط وعن الجزع ومظاهره من شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية.

أما الصبر على الطاعات - فهو صبر على الشدائد، لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات، فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وإيثار الراحة، وتكره الزكاة بسبب الشح والبخل، وتكره الحج والجهاد للأمرين معًا، وتكره الصوم بسبب محبة الفطر وعدم الجوع، وعلى هذا فقس فالصبر على الطاعات صبر على الشدائد.

يقول ابن القيم- رحمه الله- في" مدارج السالكين: 2/156":

والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية. اهـ

فالصبر على الطاعات صبر على الشدائد.

والعبد يحتاج إلى الصبر على طاعته في ثلاثة أحوال:

الأولي: قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على الوفاء بالمأمور به نحوها، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، ولهذا قَدَّم الله تعالى الصبر على العمل فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: 11)

الثانية: الصبر حال العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه وأركانه، فيلازم الصبر عند دواعي التقصير فيه والتفريط، وعلى استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود.

الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للرياء والسمعة، والصبر عن النظر إلى العمل بعين العجب، والصبر عن الإتيان بما يبطل عمله ويحبط أثره كما قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (البقرة: 264)

فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله.

فالطاعة إذن تحتاج إلى مجاهدة وصبر، ولهذا قال النبي ﷺ: " حفت الجنة بالمكاره ...." (رواه مسلم)

أي بالأمور التي تشق على النفوس.

 

وأما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر، ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات، وعن الوقوع فيما حرم الله، وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف، ومفارقة كل ما يساعد على المعاصي، وقطع العادات، فإن العادة طبيعة خاصة، فإذا انضمت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جند الشيطان على جند الله، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما، ولهذا قال النبي ﷺ " ..... وحفت النار بالشهوات ". وذلك لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها، فإذا حبس الإنسان نفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيرًا له.

وأما الصبر على البلاء: فقد قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 155) ويكون هذا الصبر بحبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله تعالى، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها.

والصبر على البلاء بضاعة الصديقين،  فإن ذلك شديد على النفس، ولذلك قال ﷺ:" أسألك من اليقين ما تهون على به مصائب الدنيا([21]) ". فهذا صبر مستنده حسن اليقين.

وعند نزول البلاء يظهر الصابر المحب الصادق في محبته، ومدعى المحبة الساخط الكذاب.

ومن هاهنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة، لأنهم كلهم ادّعوْا محبة الله تعالى، فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة، ولم يثبت معه إلا الصابرون، فلولا تحمل المشاق، وتجشُّم المكاره بالصبر، لما ثبتت صحة محبتهم، وقد تبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبرًا.

ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أولياءه وأحبابه، فقال عن حبيبه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} ثم أثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص: 44)

فصلى الله على نبيه أيوب، فكم كان صبره حتى ضُرب به المثل، وكم كان أدبه في صبره إذ قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء: 83)، فقال: مَسَّنِيَ، ولم يقل: هدَّني، أو آذاني.

فالصبر من العبد عند وقوع البلاء به هو اعتراف منه لله بما أصاب منه واحتسابه عنده ورجاء ثوابه، فعن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ:" إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، وأبدل لي بها خيرًا منها ". (رواه أبو داود)

فلما احتضر أبو سلمة قال: اللهم اخلفني في أهلي خيرًا مني، فلما قبض قالت أم سلمة: إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب مصيبتي، فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول ﷺ والرضا عن الله إلى ما آلت إليه، ونالت أم سلمة نكاح أكرم الخلق على الله محمد ﷺ.

فعليك أخي الحبيب بالصبر الجميل الذي لا ضجر معه وكن راضيًا عن الله -عز وجل- فإنه أرحم بك من رحمة الأم بطفلها الرضيع.

قال ابن تيمية -رحمه الله-:" الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين ".

(تسلية أهل المصائب ص 173)

وكذا قال ابن حزم -رحمه الله- كما في المحلى: 5/216، وأبو بكر الطرطوشي في كتابه "البدع والحوادث ص163 "

وقال ابن القيم-رحمه الله-: " وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر".  (مدارج السالكين:2/152)

والصبر يتحقق بثلاثة أمور:

1- حبس النفس عن الجزع والسخط.

2- وحبس اللسان عن الشكوى للخلق.

3- وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر. (عدة الصابرين ص13)

فالصبر هو الدرع المتين الذي يجب على المؤمن أن يتدثر به ليقيه من السخط والجزع، ويحصنه من الشيطان ووسوسته، ويجعله في مأمن من غضب الله ونقمته.

قال مغيرة-رحمه الله-: ذهبت عين الأحنف، فقال: ذهبت عيني من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد "

(سير إعلام النبلاء:4/92)

مراتب الصبر:

وهي ثلاثة مراتب: ذكرها ابن القيم-رحمه الله- في كتابه مدارج السالكين:2/165":

المرتبة الأولى: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل: 127)

يعني: إن لم يصبرك الله لم تصبر.

المرتبة الثانية: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى، وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأعراض.

" والصبر لله فوق الصبر بالله، وأعلى درجة منه وأجل، فإن الصبر لله متعلق بإلاهيته، والصبر به متعلق بربوبيته، وما تعلق بإلاهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته، ولأن الصبر له: عبادة، والصبر به: استعانة، والعبادة: غاية، والاستعانة: وسيلة، والغاية: مرادة لنفسها.

المرتبة الثالثة: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفًا على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصديقين.

 

أمور تقدح في الصبر وتنافيه:

لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد عكس ما ذكر قادحًا في الصبر، منافيًا له، ومن هذه الأمور:

1- الشكوى إلى المخلوق:

فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا من عدم المعرفة، وضعف الإيمان.

فالأنين والشكوى إلى الخلق وإن كان فيها راحة للمصاب إلا أنها تدل على ضعف وخور، والصبر عليها دليل قوة وعزة وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد، وهي تؤثر شماتة الأعداء، ورحمة الأصدقاء

قال بعضهم:

لا تشكون إلى صديق حالة        تأتيك في الســــراء والضــــــــراء

فلرحمـــة المتوجعين مـــــرارة        في القلب مثل شماتة الأعداء

فليحذر العاقل من أن يشكو ربه أرحم الراحمين إلى خلقه، فهذا من جهله بربه وجهله بالناس

يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في" كتابه الفوائد ص 79":" الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذه غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف رَبَّه لما شكاه، ولو عرف الناسَ لما شكا إليهم.

ورأى بعض السلف رجلًا يشكو إلى رجلٍ فاقته وضرورتَه فقال: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من لا يرحمك إلى من لا يرحمك.

في ذلك قيل:        وإذا اعترتك بلية فأصبر لها        صبـر الكـــــريم فإنــــه بك أكــــــرم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما       تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

والعارف إنما يشكو إلى الله وحده، وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه.

فهو ناظرٌ إلى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30)

وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} (آل عمران:165)

فالمراتب الثلاثة: أخسَّها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه U، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. اهـ

وأخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عند أبي هريرة t قال رسول الله r:" قال الله تعالى:  إذا ابتليتُ عبدي المؤمن، فلم يشكني إلى عُوَّاده أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه ثم يستأنفُ العمل ". (صحيح الجامع:4301)

فيا له من ربٍّ رحيم، وسعت رحمته كل شيء - سبحانه وتعالى-.

وأخرج الإمام مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار قال:" إذا مرض العبدُ بعث اللهُ تعالى إليه ملكين، فقال: انظرا ماذا يقول لعُوَّادِه ( زُوَّاره ) فإن هو إذا جاءوه حمد الله، وأثنى عليه، رفعا ذلك إلى الله U وهو أعلم، فيقول: لعبدي علىّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدل له لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه وأن أكفر عنه سيئاتهِ " (السلسلة الصحيحة:1/1146)

وقال علي t:" من إجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك ".

وقال شقيق البلخي:" من شكا مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبدًا ".

وقال بعض الحكماء:" كنوز البر كتمان المصائب ".

قال عبد العزيز بن أبي روّاد:" ثلاثة من كنوز الجنة، كتمان المصيبة، وكتمان المرض، وكتمان الصدقة ".

- رُوي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل يُقال له مُعاذٌ الكبير، أصابته مصيبة فجزع منها وأمر بإحضار النائحات، وكسر الأواني فسمعه حاتم، فذهب إلى تعزيته مع تلامذته، وأمر تلميذًا له فقال: إذا جلست فاسألني عن قوله تعالي: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (العاديات: ٦) فسأله فقال حاتم: ليس هذا موضع السؤال، فسأله ثانيا وثالثًا.  فقال: معناه أن الإنسان لكفور، عدَّادٌ للمصائب، نسَّاءٌ للنعم. مثل معاذٍ هذا، إن الله ـ تبارك وتعالي ـ متعه بالنعم خمسين سنة، فلم يجمع الناس عليها شاكرًا لله U، فلما أصابته مصيبة جمع الناس يشكو من الله تعالي. فقال معاذ: بلى. إن معاذ لكنود عدَّاد للمصائب، نسَّاء للنعم. فأمر بإخراج النائحات وتاب إلى الله عن ذلك.

2- ومما ينافي الصبر الهلع:

وهو الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ورود النعمة، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19-21)

قال عبيد بن عمير-رحمه الله-:" ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيئ والظن السيئ".

وقال بعضهم: مات ابن لي نفيس، فقلتُ لأمه: اتقي الله واحتسبيه عند الله، واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.

- ومما ينافي الصبر ويدل على الجزع ما يفعله بعض الناس عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة، ولهذا برئ النبي ﷺ ممن فعل ذلك.

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود t  أن النبي ﷺ قال:" ليس منا مَن لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية([22])".

 

3- ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها:

وقد قيل: من البر: كتمان المصائب، والأمراض، والصدقة، وقيل أيضًا: كتمان المصائب رأس الصبر.

 

4- ومن الأمور التي تنافى الصبر: الاستعجال:

فالنفس مولعة بحب العاجل، والإنسان عجول بطبعه حتى جعل القرآنُ العَجَلَ كأنه المادة التي خُلق الإنسان منها: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) فإذا أبطأ على الإنسان ما يريده نفد صبره وضاق صدره، ناسيًا أن لله في خلقه سننًا لا تتبدل، وأن لكل شيء أجلا مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة أحد من الناس، ولكل ثمرة أوان تنضج فيه، فيحسن عندئذ قطافها، والاستعجال لا ينضجها قبل وقتها، فهو لا يملك ذلك، وهي لا تملكه، ولا الشجرة التي تحملها، إنها خاضعة للقوانين الكونية التي تحكمها، وتجرى عليها بحساب ومقدار.

ولهذا خاطب الله رسوله بقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: 35) أي لا تستعجل للكفار العذاب، فإن لهم يومًا موعودًا.

وقد كان المشركون لجهلهم وسفههم، يستعجلون عذاب الله، غرورًا منهم وعنادًا، فيرد الله عليهم بما يسكتهم ويبكتهم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (العنكبوت: 53)

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)

 

5- ومن الأمور التي تنافى الصبر: الغضب:

فقد يدفع الغضب الإنسان إلى عدم الصبر، وربما وصل به الحال إلى اليأس وهذا ما حدث مع يونس-عليه السلام- عندما خرج من بلدته، وقد امتلأ قلبه غيظًا وغضبًا على قومه، ولم يصبر على دعوتهم، وفى هذا يقول الله تعالى للنبي ﷺ: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ  ([23]) (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } (القلم: 48-50 )

وصاحب الحوت المذكور هنا هو يونس -عليه السلام- وقد لقب فى سورة " الأنبياء " أيضًا " ذا النون " وإنما أضيف إلى النون أو الحوت، لأنه التقمه ثم نبذه، وقد أشير إلى قصته فى " سورة الأنبياء " وفصلت بعض التفصيل فى " سورة الصافات ".

وخلاصتها: أنه أرسل إلى أهل قرية عرفت باسم " نينوى " بالعراق فدعاهم إلى توحيد الله، فأعرضوا ونأوا بميامنهم عنه، ولم يجد من يستجيب لدعوته منهم، فسرعان ما فرغ صبره، وضاق صدره، فغادرهم ثائرًا مغاضبًا قبل أن يأذن الله له، ظنًا منه أن أرض الله واسعة، ولن يضيق الله عليه، فإن يكفر به هؤلاء، فقد يجد في غيرهم المؤمنين الصالحين.

واندفع وراء غضبه على القوم، حتى انتهى إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة مشحونة مملوءة بالركاب، فركب فيها، حتى إذا كانت في عرض البحر ثقلت وأوشكت أن تغرق، فاقترح ربانها إلقاء واحد من ركابها فى البحر، لتخف وينجو الباقي، فساهموا -أي اقترعوا- على ذلك، فكانت القرعة على يونس، وألقى في البحر، ليلتقمه حوت عظيم، لبث في بطنه أيامًا لا يعلمها إلا الله، وفي هذا الكرب والضيق والظلمات المتراكمة: ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، نادى يونس ربه: { أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء: 87) فاستجاب الله له ونجاه من الغم، فلفظه الحوت على الساحل، ونبذ بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وأرسله إلى قومه مرة أخرى، فأمنوا فمتعهم اللهُ إلى حين.

والشاهد هنا: أن الله يحذر خاتم رسله محمد ﷺ من الاستجابة إلى داعي الغضب، الذي قاد يونس إلى ما قصه الله عليه، وجر عليه من البلاء ماجر، وإنما عليه أن يصبر لحكم ربه، ويثبت على دعوته، ويتحمل أعباء رسالته، ولا يندفع وراء انفعالاته، وإنما ينتظر أمر مولاه، ويترقب في النهاية نصر ربه.

 

6- ومن الأمور التي تنافى الصبر: شدة الحزن والضيق مما يلقاه أهل الصلاح عند نشر دعوتهم:
فليس أشد على الداعية المخلص لدعوته من الإعراض عنه، والإيذاء له، والافتراء عليه، والمكر به، وفى هذا يقول الله لرسوله: { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل: 127 )

ثم يؤنسه بأنه في معيته سبحانه ورعايته فيقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128)

ولقد بلغ الضيق والحزن بالنبي ﷺ من إعراض القوم وتعنتهم وافترائهم مبلغًا جعل القرآن يخاطبه في لهجة حاسمة، فيقول: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (هود: 12)

 

وفى مواضع آخر يقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 3)

ويقول أيضًا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6)

ويقول أيضًا: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8)

وفى موضع آخر يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}

(يونس: 99)

فالإيمان والكفر والهدى والضلال، كلها واقعة في الوجود بمشيئة الله تعالى لهذا الكون، وأجرى بها أقداره، فينبغي مراعاة هذه السنن لا مغالبتها فإنها غلَّابة وهذا كله تعليم للدعاة إلى الله وتنبيه لهم إلى أن تقوم الساعة.

7- ومن الأمور التي تنافى الصبر: اليأس:

فهو من أعظم عوائق الصبر، فإن اليائس لا صبر له، لأن الذي يدفع الزارع إلى معاناة مشقة الزرع وسقيه وتعهده، هو أمله فى الحصاد، فإذا غلب اليأس على قلبه، وأطفأ شعاع أمله، لم يبق له صبر على استمرار العمل فى أرضه وزرعه، وهكذا كل عامل فى ميدان عمله، وصاحب الدعوة والرسالة كذلك.

ولهذا حرص القرآن على أن يدفع الوهم عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}

(آل عمران: 140،139)

{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 35)

ولما أمر موسى قومه بالصبر إزاء طغيان فرعون وتهديده، أضاء أمامهم شعلة الأمل، فقال: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 129،128)

ولما شكا خباب بن الأرت إلى النبي ﷺ ما يلقى من أذى المشركين، شكوى تحمل معنى الضيق والتبرم، ضرب له النبي ﷺ مثلًا بما لقيه المؤمنون فى الأزمنة الماضية، ثم طرد عن قلبه اليأس، وزرع فيه الأمل الخصب، حيث أخبره أن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من أقصى الجزيرة إلى أقصاه، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.

وما ذلك إلا لأن الأمل أكبر معوان على الصبر على طول الطريق ومشقاته، وأن اليأس من أعظم المعوقات عن الصبر.

 

أمور لا تنافي الصبر:

1- الحزن ودمع العين:

قال تعالى عن يعقوب -عليه السلام-: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (يوسف: 84)

قال قتادة-رحمه الله-: كظيم من الحزن، فلم يقل إلا خيرًا.

وقد بكى النبي ﷺ شفقًا على فراق الأحبه – ففي الحديث الذى أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس    tقال: دخلنا مع رسول الله ﷺ على أبى سيف القين([24]) – وكان ظئرًا([25]) لإبراهيم، فأخذ رسول الله ﷺ إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه([26]) فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان([27])، فقال له عبد الرحمن بن عوف t: وأنت يا رسول الله([28])؟ فقال:" يا بن عوف إنها رحمة "، ثم أتبعها بأخرى([29])، فقال:" إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".

قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:" ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف t نفسه:" فقلت يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء؟ وزاد فيه:" إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان- قال:" إنما هذا رحمة ومن لا يرحم لا يرحم ". (فتح الباري لابن حجر:3/174)

وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:" هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي ﷺ ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني نزاعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله، ليظهر الفرق ". (المصدر السابق)

وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال:" اشتكي سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي ﷺ يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله([30]) فقال:" قد قضي؟" قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي ﷺ فلما رأى القوم بكاء النبي ﷺ بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا([31])- وأشار إلى لسانه- أو يرحم([32])، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه([33])". وأخرج البخاري ومسلم عن عمر t أنه كان  يضرب فيه بالعصا([34])، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب ".

قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:" في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي ﷺ، لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر". (فتح الباري:3/175)

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- في قصة لصبي لإحدى بنات رسول الله ﷺ حينما قال النبي ﷺ لرسول ابنته:" ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب". فأرسلت إلى رسول الله ﷺ وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي ﷺ وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رفع الصبي للنبي ﷺ وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال:" هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ".

وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك t قال:" شهدنا بنتًا لرسول الله ﷺ، قال: ورسول الله ﷺ جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان ".

2- ومن الأمور التي لا تنافي الصبر: الشكوى إلى الله تعالى لرفع البلاء:

عرف بعض أهل العلم الصبر بأنه: ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله، لأن الله تعالى أثنى على أيوب

-عليه السلام- بالصبر بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} (سورة ص: 44)

مع دعائه في دفع الضر عنه بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء: 83)

فعلم أن العبد إذا دعا الله تعالى في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره ولا ينافيه.

وقال تعالى مخبرًا عن يعقوب-عليه السلام-: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86)

وقال يعقوب أيضًا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18)

ولا ينافي الصبر أيضًا إخبار المخلوق بحاله، كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.

مجالات الصبر:

1- الصبر على بلاء الدنيا:

وبلاء الدنيا ونكبات الأيام لا يخلو منها إنسان، وهذا راجع إلى طبيعة الدنيا، فقد جبلت على كدر، ومن الصعب بل من المستحيل أن تراها صفوًا من الأكدار، فهل رأيت أحدًا سلم من آلام النفس، وأسقام البدن، وفقدان الأحبة، وخسران المال، وإيذاء الناس، ومتاعب العيش، وغير ذلك من تقلبات الدهر، وهذا كله لابد من وقوعه، والغرض منه الاختبار لمعرفة الصابر المحتسب من الجازع الهلع المتسخط، كما قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }  (البقرة: 155-157 )

 

2- الصبر على مشتهيات النفس:

فلابد من الصبر عما تشتهيه النفس، ويميل إليه الطبع، من متاع الدنيا وزينتها وشهواتها، التي يسوق إليها الهوى، ويزينها الشيطان. والمؤمن عليه أن يصبر عن ملاذ الدنيا، فلا يطلق لنفسه العنان للجري وراء شهواتها من النساء، والبنين ومتاع الدنيا الزائل، قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }

(آل عمران: 15،14)

ثم قال بعدها واصفًا الذين اتقوا من عباده فقال: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}

(آل عمران:17)

وكما أن هناك ابتلاء بالضراء، فهناك ابتلاء بالسراء وهو أشد.

- ولهذا قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن، والعوافي([35]) لا يصبر عليها إلا صِدِّيق.

-وقال آخر: " الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء ".

- ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة-رضى الله عنهم- قال بعضهم:" ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر([36])".

قال الغزالي-رحمه الله- في" كتابه الإحياء: 1/70":" وإنما كان الصبر على السراء أشد، لأنه مقرون بالقدرة، ومن العصمة ألا تقدر . . . والجائع عند غيبة الطعام، أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذة وقدر عليها، ولهذا عظمت فتنة السراء ". اهـ

ولقد حذر رب العالمين في كتابه الكريم من الركون إلى شهوات الدنيا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّه} (المنافقون: 9)

وقال الغزالي أيضًا-رحمه الله-:" فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، ومعني الصبر عليها: ألا يركن إليها، ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده، وعسى أن يسترجع على القرب، وألا يرسل نفسه في الفرح بها، ولا ينهمك في التنعم واللذة واللهو واللعب، وأن يراعى حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة، وفي لسانه بالصدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه ". اهـ (إحياء علوم الدين:1/69)

وقال ابن القيم-رحمه الله- كلامًا قريبًا من كلام الغزالي حيث قال:" والصبر على مشتهيات النفس لابد أن يكون من وجوه أربعة: أ - ألا يركن إليها ولا يغتر بها. ب - ألا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها.

جـ - أن يصبر على أداء حق الله فيها.  د - ألا يصرفها في حرام. اهـ

وفي الختام لابد أن نعرف أن الصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب.

وقد قال بعض السلف: اقدعوا هذه النفوس فإنها تتطلع إلى كل سوءٍ-أي كُفُّوها عما تتطلع إليه من الشهوات- فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطامًا وزمامًا فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن الشهوات ومحارم الله أهون من الصبر على عذابه.

3- ومن مجالات الصبر: الصبر عن التطلع إلى دنيا الآخرين:

قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 131)

فالمؤمن حقًا هو الذي يعتز بما آتاه الله من نعمة الهداية إلى الإيمان، والتوفيق إلى الطاعة، ويعلم أن المال ظل زائل، وعارية مستردة، ولا يبالي بمظاهر الأبهة والزينة التي يتمتع بها أصحاب الثروة والسلطان، وهذا ما وصف به القرآن أهل البصيرة من قوم موسى، الذين خرج عليهم قارون فى زينته وفخامة موكبه، فقال الذين يريدون الحياة الدنيا في تمن وتحسر: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}

(القصص: 79)

أما موقف أهل العلم والإيمان وذوي البصيرة والصبر، فهو ما ذكره القرآن:

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص: 80)

4- ومن مجالات الصبر: الصبر عن الاستجابة لداعى الغضب:

فهناك من يحمله الغضب على أن يقابل السيئة بأكثر منها، فيكيل للمعتدى الصاع صاعين وقد قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النحل: 126)

وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 43،41)

ويمثل هذا النوع من الصبر في القرآن خير ابني آدم الذي هدده أخوه بالقتل، فكان رده الحاسم البين: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين} (المائدة: 28)

5- ومن مجالات الصبر: الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تعالى:

فالدعاة إلى الله –عز وجل- يطلبون من الناس أن يتحرروا من أهوائهم وأوهامهم، وعادات أقوامهم، وما ألفه الآباء-وورثه عنهم الأبناء- من جهالات وبدع وخرافات بل وشركيات، وأكثر الناس لا يستجيبون للدعاة والناصحين، بل يحاربونهم بكل ما أوتوا من قوة، طمعًا فى الجاه أو السلطان، أو خوفًا من ضياع المال أو عادات الآباء، أو حبًا للدنيا والشهوات، فعلى الدعاة أن يتسلحوا بالصبر. وهذا هو السر فى اقتران التواصي بالصبر بالتواصي بالحق فى سورة العصر، قال تعالى: {والعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة العصر)

فلا بقاء للحق بغير صبر. وهو السر فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قال الله تعالى على لسانه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17 )

كأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فوطن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبل الأذى من جهتهم فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف، لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر، لأنه محبب إليهم.

وها هو عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- لما استشعر المسئولية الكبيرة في تغيير الانحرافات المتراكمة من سنوات طويلة في العهود السابقة قال: "إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله " اهـ

حيث كبر عليه الصغير وهرم عليه الشاب وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبه الناس دينًا نشأوا عليه وشبوا عليه حتى صار دينًا لهم فأراد أن يغير ما ألفه الناس، وأن يأخذ بأيديهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم.

- ومشاق الدعوة إلى الله تتمثل فى صور شتى، وقد ذكر القرآن منها أنواعًا وأمثلة:

أ- تتمثل فى إعراض الخلق عن الداعية: فليس أشق على نفس صاحب الدعوة أن يدعو بملء فيه، ويصيح بأعلى صوته، بشيرًا ونذيرًا، فلا يجد إلا آذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا.

رأينا ذلك مع نوح -عليه السلام-، حيث قال مناجيًا ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}

(نوح: 5-7)

ورأينا ذلك مع هود -عليه السلام- حين قال له قومه: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين} (هود: 53)

ورأينا ذلك مع خاتم الرسل محمد ﷺ حيث وصف الله حال قومه معه فقال: {حم (1)تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 1-5)

ولهذا قال الله لرسوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ِ} (النحل: 127)

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود t قال:" كأنى أنظر إلى رسول الله ﷺ يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ".

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "عدة الصابرين ص99":

فتضمنت هذه الدعوة العفو عنهم، والدعاء لهم، والاعتذار عنهم، والاستعطاف بقوله: "لقومي".

- أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي ﷺ أنها قالت للنبي ﷺ:

" هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لقيتُ، وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ([37])، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا ".

ب- وتتمثل متاعب الدعوة فى أذى الناس بالقول أو الفعل، فليس أشد على نفس الرجل المخلص فى دعوته، البريء من الهوى، المحب لخير الناس، من أن يمحض لهم النصح، فيتهموه بما ليس فيه، وأن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة فيردوه بالقوة، ويعظهم بالحسنى، فيستقبلوه بالسوأى، ويجادلهم بالتي هي أحسن، فيقاوموه بالتي هي أخشن، ويدلهم على الخير، فيقذفوه بالشر، ويصدع فيهم بكلمة الحق، فلا يسمع منهم إلا كلمة الباطل، وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، فكثيرًا ما يمتد الطغيان إلى سلب الأموال أو الطرد من البلدان، وانتهاك الحرمات، بل يصل الأمر إلى القتل.

- وهذا ما أقسم القرآن على وقوعه للداعين إلى الله، حيث خاطب بذلك المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل فقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186)

- ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل: 10)

- والأنبياء جميعًا يمثلون هذا النوع من الصبر ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردًا على أقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)

وعزى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ...} (الأنعام: 34)

ومن اتباع الرسل ذكر لنا القرآن هنا مثلًا رائعًا يتجلى في سحرة فرعون، حين وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون، وعندها قال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}

(الأعراف: 123-124)

فماذا كان موقف السحرة إزاء هذا الوعيد الهادر من ملك جبار يقول للناس: أنا ربكم الأعلى؟

لقد وقفوا أمام جبروت فرعون، سائلين الله تعالى أن يفرغ عليهم صبرًا يتحملون به العذاب، ويستقبلون به المكاره، وألا يزغ قلوبهم بعد إذ هداهم.

ومن هنا قالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 125-126)

وأخرج الإمام مسلم من حديث صهيب t أن رسول الله ﷺ قال:" كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر . . . الحديث، وفيه: " إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد([38])واحد وتصلبني على جذع، ثم خد سهمًا من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس([39])ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ  سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود([40]) في أفواه السكك([41]) فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه اصبري، فإنك على الحق ".

 

جـ- وتتمثل مشاق الدعوة كذلك في صورة أخرى هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، هناك يبتلى المؤمنون ويزلزلون زلزالًا شديدًا، كما صور القرآن الحالة النفسية للمسلمين فى غزوة الأحزاب.

وكم أكد القرآن هذه الحقيقة فى أكثر من موضع، وبأكثر من أسلوب، فهو يخاطب المؤمنين فيقول:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214)

يقولون متى نصر الله؟ استبطاءً له، واستعجالًا لمجيئه، فيجئ معه الغوث للملهوف، والفرج للمكروب.

ويقول جل شأنه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110)

 

 

 

6- من مجالات الصبر: الصبر على طلب العلم:

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي كَعْبٍ: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ يقولُ: إنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّ لي عَبْدًا بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ مُوسَى: يا رَبِّ، فَكيفَ لي به؟ قالَ: تَأْخُذُ معكَ حُوتًا([42]) فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ([43])، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ([44])، فأخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ في مِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ وانْطَلَقَ معهُ بفَتَاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، حتَّى إذَا أتَيَا الصَّخْرَةَ وضَعَا رُؤُوسَهُما فَنَامَا، واضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ، فَخَرَجَ منه فَسَقَطَ في البَحْرِ، (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) [الكهف: 61]، وأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عليه مِثْلَ الطَّاقِ([45])، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَومِهِما ولَيْلَتَهُما، حتَّى إذَا كانَ مِنَ الغَدِ قالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) [الكهف: 62]، قالَ: ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَا المَكانَ الذي أمَرَ اللَّهُ به، فَقالَ له فَتَاهُ: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) [الكهف: 63]، قالَ: فَكانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، ولِمُوسَى ولِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقالَ مُوسَى: (ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا علَى آثَارِهِما قَصَصًا)، قالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُما حتَّى انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى([46]) ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى، فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قالَ: أنَا مُوسَى، قالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قالَ: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف: 67]، يا مُوسَى، إنِّي علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ، لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأَنْتَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، لا أعْلَمُهُ، فَقالَ مُوسَى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) [الكهف: 69]، فَقالَ له الخَضِرُ: (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) [الكهف: 70]، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ بغيرِ نَوْلٍ([47])، فَلَمَّا رَكِبَا في السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إلَّا والخَضِرُ قدْ قَلَعَ لَوْحًا مِن ألْوَاحِ السَّفِينَةِ بالقَدُومِ، فَقالَ له مُوسَى: قَوْمٌ قدْ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا([48]) * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:71-73]، قالَ: وقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: وكَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا، قالَ: وجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نَقْرَةً، فَقالَ له الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِن هذا البَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبيْنَا هُما يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ إذْ أبْصَرَ الخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيَدِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقالَ له مُوسَى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً([49])) (بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [الكهف: 74 - 75]، قالَ: وهذِه أشَدُّ مِنَ الأُولَى، قالَ: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) [الكهف: 76، 77]، قالَ: مَائِلٌ، فَقَامَ الخَضِرُ فأقَامَهُ بيَدِهِ، فَقالَ مُوسَى: قَوْمٌ أتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ولَمْ يُضَيِّفُونَا، (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) [الكهف: 77]، قالَ: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) إلى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف: 78 - 82]، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِن خَبَرِهِما. قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ (وَكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا)، وكانَ يَقْرَأُ: (وَأَمَّا الغُلَامُ فَكانَ كَافِرًا وكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ).

 

7- ومن مجالات الصبر: الصبر فى الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف:

فالصبر لازم فى الحرب وعند لقاء العدو، وهو شرط للنصر، وقديما قالوا:" إنما النصر صبر ساعة ".

(رواه الخرائطي فى مكارم الأخلاق والطبري فى تاريخه)

وقد أثني الله على الصابرين فى الحرب، فقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ (أي الفقر) وَالضَّرَّاءِ (أي المرض) وَحِينَ الْبَأْسِ (أي الحرب) أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} (البقرة: 177)

- وحذر الله تعالى من الفرار وتولى الأدبار، وأمر بالثبات والصبر، فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}

(الأنفال: 45-47)

فوضع ستة شروط أولها: الثبات، وخامسها: الصبر، وهما من باب واحد، فلا ثبات بغير صبر ويؤكد القرآن الأمر بالصبر عند ختام الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ليغرى الأنفس به، ويثبت القلوب عليه.

وفي نفس السورة يربط القرآن بين الصبر فى القتال والغلبة على العدو، فيقول: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }   (الأنفال: 66،65)

وأعظم ما تشتد به الحاجة إلى الصبر في الحرب عندما ينفرط العقد، وتميل الريح ويضطرب الأمر، وتشيع روح الهزيمة فى المقاتلين، وتنتشر الشائعات المثبطة للهمم، المحطمة للعزائم، كما حدث فى غزوة أحد، بعد أن أخلى الرماة أماكنهم فانكشف جيش المسلمين، وانقض عليهم فرسان المشركين من الخلف، فاضطرب الميزان، وانتشر الذعر، وشاعت الشائعات بأن رسول الله ﷺ قد قتل، فأوهن ذلك صفوف المسلمين وفت فى أعضادهم، وزلزل روحهم المعنوية، ففر الأكثرون وبقى الأقلون، وهنا نزل القرآن يشيد بالذين ثبتوا وصبروا، وينكر على الذين تولوا وأدبروا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }   (آل عمران: 143،142)

ولا يجعل لهم عذرًا فى الفرار من المعركة، ولو كان قد صح ما أشيع أن الرسول قد قتل، يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144)

إلى أن يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146)

وخير من يمثل هذا النوع من الصبر فى القرآن: طالوت والقلة المؤمنة معه من جنوده، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، على عدد أهل بدر، ولقد عقد طالوت لجنوده امتحانًا في بادئ الأمر ليختبر صبرهم، فقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (البقرة: 249)

هذه القلة التي نفذت الأمر، وأبت أن تشرب الماء وهي ظمأى إلا غرفة باليد، هي التي نجحت فى الامتحان، وتبين صبرها عند الشدة، وهى التي اجتازت النهر مع طالوت: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ }  ( أي لكثرة عددهم وعدتهم )، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا اللَّهِ} ( أي من هؤلاء المؤمنين ) { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (البقرة: 250،249) طلبوا أولا أن يمنحهم الله الصبر، لأنه سبيل النصر، ومن روعة التعبير هنا أنهم لم يسألوا الله أي قدر من الصبر، بل سألوه أن يفرغه عليهم إفراغًا، أي يصبه عليهم صبًا، كأنه ماء يفرغ عليهم ليتطهروا به ويغتسلوا. وكانت العاقبة انتصار القلة المؤمنة الصابرة على الكثرة الطاغية الكافرة {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} (البقرة: 251)

 

 

والنبي ﷺ كان يأمر أصحابه بالصبر عند لقاء العدو.

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى  tأَنَّ رسول الله ﷺ كان فِي بَعْض أَيَّامه التي لَقِي فيها العدو ينتظر، حتى إذا مَالَتِ الشمس قام فِيهم، فقال:" يا أَيُّها الناس، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدُوِّ، وَاسْأَلوا الله الْعافية فَإِذا لَقِيتموهم فَاصْبِرُوا، وَاعلموا أَنَّ الْجَنَّة تحت ظِلال السُّيوف ثُمَّ قَال النَّبِي ﷺ: اللهمَّ مُنزِلَ الْكتاب، وَمُجْرِيَ السَّحاب، وَهازم الأَحْزاب: اهْزِمهم، وَانصُرنا علَيهم ".

 

- وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة الحارث بن رِبْعِيِّ  tعن رسول الله ﷺ: أَنَّهُ قامَ فيهم، فذكرَ لهم أَنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ، والإيمانَ باللهِ أفضلُ الأعمالِ، فقامَ رَجُلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فقالَ له رسولُ اللهِ ﷺ:" نعم، إنْ قُتِلْتَ في سبيلِ اللهِ، وأنتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ". ثم قال رسولُ اللهِ ﷺ:" كَيْفَ قُلْتَ؟" قال: أَرَأَيتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فقالَ له رسولُ اللهِ ﷺ:" نعم، وأنتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إلا الدَّيْنَ؛ فَإنَّ جِبْرِيلَ -عليه السلام- قالَ لِي ذَلِكَ ".

 

وأخرج البخاري ومسلم عن جندب بن سفيان t قال:" دميت([50])إصبع رسول الله ﷺ في بعض تلك المشاهد فقال:" هل أنت إلا إصبع دميت       وفي سبيل الله ما لقيت ".

 

8- ومن مجالات الصبر: الصبر عند نزول الشدة والبلاء:

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: أرسلَتْ بنتُ النَّبيِّ ﷺ إليهِ،  أنَّ ابنًا لي قُبِضَ فأْتِنا فأرسلَ يقرأُ السَّلامَ ويقولُ : إنَّ للَّهِ ما أخذَ ولَهُ ما أعطى وَكُلُّ شيءٍ عندَ اللَّهِ بأجَلٍ مُسمًّى ، فلتَصبِرْ ولتَحتسِبْ فأرسلَتْ إليهِ تقسمُ عليهِ ليأتينَّها ، فقامَ ومعَهُ سعدُ بنُ عبادةَ ومعاذُ بنُ جبَلٍ وأبيُّ بنُ كَعبٍ وزيدُ بنُ ثابتٍ ورجالٌ ، فرفعَ إلى رسولِ اللَّهِ ﷺ الصَّبيُّ ونفسُهُ تقَعقعُ([51]) - قال حسبته أنه قال: كأنها شن([52])- ففَاضَت عيناهُ فقالَ سعدٌ : يا رسولَ اللَّهِ! ما هذا؟ قالَ:" هذه رحمةٌ يجعلُها اللَّهُ في قلوبِ عبادِهِ وإنَّما يَرحمُ اللَّهُ من عبادِهِ الرُّحَماءَ ".

 

وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر-رضى الله عنهما-: أنَّ مَوْلاةً لهُ أَتَتْهُ فقالتْ اشْتَدَّ عليَّ الزَّمانُ وإنِّي أُرِيدُ أنْ أَخْرُجَ إلى العراقِ قال فَهَلَّا إلى الشَّأْمِ أرضِ المَنْشَرِ اصْبِرِي لكَاعِ([53]) فإني سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ مَنْ صَبَرَ على شِدَّتِها ولَأْوَائِها([54]) كُنْتُ لهُ شَهِيدًا أوْ شَفيعًا يومَ القيامةِ ".

- وأخرج الإمام أحمد عن محمود بن لبيد t أن رسول الله ﷺ قال:" إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ".  (صحيح الجامع: 282) (السلسلة الصحيحة: 146)

 

- وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: إنا كنا أزواج النبي ﷺ عنده جميعا لم تغادر منا واحدة، فأقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ تَمْشِي، لا واللَّهِ ما تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِن مِشْيَةِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ: مَرْحَبًا بابْنَتي ثُمَّ أجْلَسَهَا عن يَمِينِهِ أوْ عن شِمَالِهِ، ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ، فَإِذَا هي تَضْحَكُ، فَقُلتُ لَهَا أنَا مِن بَيْنِ نِسَائِهِ: خَصَّكِ رَسولُ اللَّهِ ﷺ بالسِّرِّ مِن بَيْنِنَا، ثُمَّ أنْتِ تَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ سَأَلْتُهَا: عَمَّا سَارَّكِ؟ قَالَتْ: ما كُنْتُ لِأُفْشِيَ علَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ سِرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قُلتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بما لي عَلَيْكِ مِنَ الحَقِّ لَمَّا أخْبَرْتِنِي، قَالَتْ: أمَّا الآنَ فَنَعَمْ، فأخْبَرَتْنِي، قَالَتْ: أمَّا حِينَ سَارَّنِي في الأمْرِ الأوَّلِ، فإنَّه أخْبَرَنِي: أنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُهُ بالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وإنَّه قدْ عَارَضَنِي به العَامَ مَرَّتَيْنِ، ولَا أرَى الأجَلَ إلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي، فإنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أنَا لَكِ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الذي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ، قَالَ: يا فَاطِمَةُ، ألَا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ، أوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هذِه الأُمَّةِ.

 

أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس t قال: مر النبي ﷺ بامرأة تبكي عند قبر فقال: " اتقي الله واصبري " قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ﷺ فأتت باب النبي ﷺ فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولي ".

 

- وأخرج البخاري من حديث خباب بن الأرت  tقال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال:" قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثمَّ يُؤتى بالمِنْشَارِ فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصُدُّهُ ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غَنَمِه، ولكنكم تستعجلون ".

 

10- من مجالات الصبر: الصبر على تربية البنات:

- فقد أخرج الترمذي من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ:" من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار ". (صححه الألباني)

 

 

9- من مجالات الصبر: الصبر على موت الولد:

- فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي موسى الأشعري t أن رسول الله ﷺ قال:" إذا مات ولدٌ لعبدٍ قال اللهُ تعالى لملائكتِه: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقولُ: قبضتم ثمرةَ فؤادِه؟ فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمَدك واسترجع، فيقولُ: ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ، وسمُّوه بيتَ الحمدِ ".

- وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t أَتَتِ امْرَأَةٌ النبيَّ ﷺ بصَبِيٍّ لَهَا، فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللَّهَ له، فَلقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً، قالَ: دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: لَقَدِ احْتَظَرْتِ بحِظَارٍ شَدِيدٍ([55]) مِنَ النَّارِ".

- وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ  قال لِنسوةٍ مِنَ الأنصارِ: لا يَموتُ لإحداكنَّ ثلاثةٌ مِنَ الولدِ فتَحتَسِبُه؛ إلَّا دخَلَتِ الجنَّةَ. فقالتِ امرأةٌ منهنَّ: أوِ اثنينِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: أوِ اثنينِ.

- أخرج البخاري من حديث أبي هريرة t أن رسول الله ﷺ قال: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ".

 

15- ومن مجالات الصبر: الصبر فى مجال العلاقات الإنسانية:

فالإنسان اجتماعي بطبعه لا يعيش فى هذا المجتمع بمفرده، بل يخالط الأقارب والأصدقاء والجيران والأهل والزوجة والأولاد وزملاء العمل، وكل إنسان فيه ما يُمدح ويُذم، والعلاقات بين الناس لا تستقيم إلا بصبر بعضهم على بعض، فيصبر الزوج على زوجته والعكس، ويصبر الجار على جاره والعكس، ويصبر الوالد على والده والعكس، والأخ مع أخيه والعكس، والقريب مع قريبه والعكس، والمعلم مع تلميذه والعكس، فيلجم الإنسان نفسه بلجام الحلم ويكفها عن الغضب ودواعي الانفعال، والحرص على دفع السيئة بالحسنة، فينقلب العدو إلى صديق، والساخط المبغض إلى محب مخلص، وقد أمرنا الله بذلك فى كتابه الكريم، فقال تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }     (فصلت:35،34)

- ويعدد القرآن أوصاف أولى الألباب الذين يستحقون عقبى الدار- أي الجنة-، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}

(الرعد: 22)

11- من مجالات الصبر: الصبر على أذى الناس:

فقد أخرج الإمام احمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم ".

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك t أنَّ ناسًا مِن الأنصارِ قالوا يومَ حُنَينٍ حينَ أفاء اللهُ على رسولِه مِن أموالِ هوازنَ ما أفاء فطفِق رسولُ اللهِ ﷺ يُعطي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئةَ مِن الإبلِ فقالوا : يغفِرُ اللهُ لِرسولِه يُعطي قُرَيشًا ويترُكُنا وسيوفُنا تقطُرُ مِن دِمائِهم قال أنَسٌ : فحدَّثْتُ ذلكَ رسولَ اللهِ ﷺ مِن قولِهم فأرسَل إلى الأنصارِ فجمَعهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ([56]) فلمَّا اجتمَعوا جاءهم رسولُ اللهِ ﷺ فقال :" ما حديثٌ بلَغني عنكم "؟ فقال له قومٌ مِن الأنصارِ: أمَّا ذَوُو أسنانِنا يا رسولَ اللهِ فلَمْ يقولوا شيئًا وأمَّا ناسٌ منَّا حديثةٌ أسنانُهم فقالوا: يغفِرُ اللهُ لِرسولِه يُعطي أناسًا وسيوفُنا تقطُرُ مِن دِمائِهم فقال رسولُ اللهِ ﷺ:" إنِّي أُعطي رِجالًا حدِيثِي عهدٍ بالكفرِ أتألَّفُهم أفلَا ترضَوْنَ أنْ يذهَبَ النَّاسُ بالأموالِ وترجِعونَ إلى رِحالِكم برسولِ اللهِ؟ فواللهِ لَمَا تنقلِبونَ به خيرٌ ممَّا ينقلِبونَ "، فقالوا : بلى يا رسولَ اللهِ قد رضِينا قال :" فإنَّكم ستجِدونَ أثَرَةً([57]) شديدةً فاصبِروا حتَّى تلَقُوا اللهَ ورسولَه على الحوضِ ". قالوا : سنصبِرُ.

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أسيد بن حضيرt: أن رجلًا من الأنصار خلا برسول الله ﷺ فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانا، فقال:" إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ".

- وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود t قال: قسم النبي ﷺ قسما، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي ﷺ فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: " يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ".

 

14- من مجالات الصبر: الصبر على ضيق العيش:

أخرج الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي الله عنهما- أن ثلاثة نفر جاءوه، فَقالوا: يا أَبَا مُحَمَّدٍ، إنَّا وَاللَّهِ ما نَقْدِرُ علَى شَيءٍ؛ لا نَفَقَةٍ، وَلَا دَابَّةٍ، وَلَا مَتَاعٍ، فَقالَ لهمْ: ما شِئْتُمْ؛ إنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إلَيْنَا فأعْطَيْنَاكُمْ ما يَسَّرَ اللَّهُ لَكُمْ، وإنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وإنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ.

 

 

 

12- ومن مجالات الصبر: الصبر على طاعة الله:

والقيام بواجب العبودية لله وطاعته من أعظم أنواع الصبر وأشده على النفوس.

قال تعالى مخاطبًا رسوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مريم: 65)

وقوله أيضًا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132)

وقد استخدم القرآن هنا صيغة الافتعال من الصبر "اصطبر " مكان الصيغة المعتادة "اصبر " لأن الافتعال يدل على المبالغة فى الفعل فزيادة المبنى تدل فى العادة على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لأن الطريق إلى طاعة الله مليئة بالمعوقات من داخل النفس ومن خارجها، وفيها يقول الشاعر:

إني ابتليت بأربــــع يــــــــرمينني         بالنبــــل عـــــن قـــــــوس لـــــه توتير

إبليس والدنيا ونفسي والورى         يارب أنت على الخلاص قدير

وسمى النبي ﷺ شهر رمضان شهر الصبر، لأن الصيام يحتاج إلى مجاهدة نفس وترك الشهوات وملذات الدنيا.

فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ:" شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ".

- وفى رواية عند الترمذي:" .... والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان ".

 

والإنسان يحتاج إلى الصبر على طاعة الله فى ثلاثة أحوال:

الأولى: قبل الطاعة: وذلك في تصحيح النية، وإخلاص العمل لله، والحرص من الرياء والسمعة ولذلك قدم الله تعالى الصبر على العمل، فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: 11)

الحالة الثانية: أثناء العمل، كي لا يغفل عن الله فى حال عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويراعى أركان العمل وواجباته، ويحظر الفتور والتواني، حتى ينتهي من العمل، قال تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (العنكبوت :59،58) أي صبروا إلى تمام العمل.

الحالة الثالثة: بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء، والبعد عن كل ما يبطل عمله، ويحبط أثره، كما قال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33)

وكما قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (البقرة: 264)

فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله.

 

13- من مجالات الصبر: الصبر فى زمن الفتن:

أخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي ذر t قال: قال رسول الله ﷺ:" يا أبا ذرٍّ! قلتُ: لبَّيكَ يا رسولَ اللَّهِ وسعديكَ،- فذَكَرَ الحديثَ وقالَ فيهِ... كيفَ أنتَ إذا أصابَ النَّاسَ موتٌ يَكونُ البيتُ فيهِ بالوصيفِ([58]) قلتُ اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ - أو قالَ ما خارَ اللَّهُ لي ورسولُهُ – قالَ:" عليكَ بالصَّبرِ- أو قالَ تصبرُ- ثمَّ قالَ لي:" يا أبا ذرٍّ! قلتُ: لبَّيكَ وسعديكَ، قالَ:" كيفَ أنتَ إذا رأيتَ أحجارَ الزَّيتِ قد غرِقَت بالدَّمِ؟ قلتُ: ما خارَ اللَّهُ لي ورسولُهُ، قالَ:" عليكَ بمن أنتَ منهُ "، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! أفلا آخذُ سَيفي وأضعُهُ على عاتقي، قالَ:" شارَكْتَ القومَ إذَن "، قلتُ: فما تأمُرُني؟ قالَ:" تلزَمُ بيتَكَ "، قلتُ: فإن دخلَ عليّ بَيتي؟ قالَ:" فإن خشيتَ أن يبهَرَكَ شعاعُ السَّيفِ، فألقِ ثوبَكَ على وجهِكَ يبوءُ بإثمِكَ وإثمِهِ ".

- وأخرج الإمام مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ:" من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتة جاهلية ".

 

الأمور التي تعين على الصبر عند نزول المصيبة([59]):

1- أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

 

2- أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال.

 

3- ومما يعين على الصبر: الاستعانة بالله:

ومما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى، ويلجأ إلى حماه، فيشعر بمعيته سبحانه، وأنه فى حمايته ورعايته، ومن كان فى حمى ربه فلن يضام. وفى هذا يقول تعالى فى خطاب المؤمنين:

{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46)

وفى خطاب رسوله ﷺ: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)

ومن كان بمعية الله مصحوبًا، وكان بعين الله ملحوظًا، فهو أهل لأن يتحمل المتاعب ويصبر على المكاره.

وانظر عندما هدد فرعون موسى -عليه السلام- وقومه، أن يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، مستخدمًا سيف القهر والجبروت، قال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (الأعراف: 128)

ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله فى آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل: 42) وقوله على ألسنة الرسل: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم: 12)

4- ومما يعين على الصبر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا:

فأقرب ما يعين الإنسان على الصبر، وخاصة على النوائب والشدائد – أن يصبح تصوره للحياة التي يعيش فيها، ويعرفها على حقيقتها، فليست جنة نعيم، ولا دار خلود، إنما هي ابتلاء وتكليف، خلق الإنسان فيها ليصقل ويبتلى ليعد لحياة الخلود فى الدار الباقية، ومن عرف الحياة على هذا النحو لم يفاجأ بكوارثها، فالشيء من معدنه لا يستغرب.

أما من كان من الناس يتصور الحياة طريقًا مفروشًا بالأزهار والرياحين، فإنه إذا نزل به شيء مهما قل وضؤل، كان أشد ما يكون على نفسه لأنه لم يكن يتوقع شيئا منه.

والقرآن الكريم يشير إلى أن حياة الإنسان محفوفة بالمتاعب والمشقة، حين يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4)

كما يشير إلى طبيعة الحياة ودوام تغيرها، وأنها لا تلبث على حال، فيوم لك ويوم عليك: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)

لقد خلق الله الحياة الدنيا على طبيعة اختلطت فيها اللذائذ بالآلام، والمحاب بالمكاره، فهيهات أن ترى فيها لذة لا يشوبها ألم، أو صحة لا يكدرها سقم، أو سرورًا لا ينغصه حزن، أو راحة لا يخالطها تعب، أو اجتماعًا لا يعقبه افتراق، أو أمانًا لا يلحقه خوف، إن هذا ينافي طبيعة الحياة، ودور الإنسان فيها، وهذا ما أدركه الحكماء والأدباء والشعراء من قديم، فنطقت به ألسنتهم وأقلامهم شعرًا ونثرًا، قيل لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه: صف لنا الدنيا، فقال: ماذا أصف لك من دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء؟

وما أجمل ما قال فى ذلك الشاعر العربي يصف الدنيا:

جبلت على كدر وأنت تريدها        صفوًا مــــن الآلام والأكدار

ومكلف الأيــــام ضد طباعهــــا        متطلب فى الماء جذوة نار

(الصبر فى القرآن ص 81، 82)

وقد مر بنا كلام ابن القيم في" زاد المعاد" في بيان علاج حر المصيبة وحزنها، فقال: ومن علاجه: أن يطفئَ نار مصيبته بِبَرْدِ التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كلِّ وادٍ بنو سعد، ولينظر يمنةً فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطِفْ يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وإنه لو فتش العالم لم يرَ فيهم إلا مبتلًى: إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظلٍّ زائل، إن أضحكت قليلًا، أبكت كثيرًا، وإن سرَّت يومًا أساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرَّته بيومِ سُرُورٍ، إلا خبأت له يوم شُرُورٍ. (زاد المعاد: 4/190)

وقال ابن مسعود t:" لكل فرحة ترحه، وما مُلئ بيت فرحًا، إلا مُلئ ترحًا ".

 

5- ومما يعين على الصبر: تذكر موت النبي ﷺ وعندها يستصغر الإنسان أي مصيبة يصاب بها:

ففي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه ان النبي ﷺ قال:" يا أَيُّها الناسُ! أَيُّما أحدٍ من الناس أو من المؤمنينَ أُصِيبَ بمصيبةٍ فلْيَتَعَزَّ بمصيبتِه بي، عن المصيبةِ التي تُصِيبُه بغيري، فإنَّ أحدًا من أُمَّتي، لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أَشَدَّ عليه من مصيبتي ".  (الصحيحه:1106)

وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزيه عن ابن له يقال له: محمد فأرسل إليه وقال:

اصبر لكــــل مصيبة وتجلـــد          واعلم أن المـــرء غير مخلـــــد

وإذا ذكرت محمدًا ومصابه          فاذكر مصابك بالنبي محمد

 

6- ومما يعين على الصبر: الوقوف على هذه الحقيقة وهي: أننا جميعًا ملك لله تعالى، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان من عدم، ومنحه الحياة والحس والحركة، ووهب له السمع والبصر والفؤاد، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنه، إذا كان لديه صحة وقوة فهي من الله، وإن كان له مال فهو من الله، وإن كان عنده ولد فهو من الله، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: 53)

فإذا نزل بالمرء نازلة سلبت شيئًا مما عنده، فإنما استرد صاحب الملك بعض ما وهب، ولا ينبغي للمودع أو المستعير أن يسخط على المالك إذا استرد يومًا من الدهر وديعته أو عاريته، وقديمًا قال لبيد:

وما المال والأهلون إلا ودائع        ولا بد يومًا أن ترد الودائع

ومن ثم علم القرآن الصابرين الذين كتب لهم البشرى والصلوات والهداية والرحمة أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)

 

يقول ابن القيم-رحمه الله- كما في" زاد المعاد: 3/265": وهذه الكلمة من أبلغ علاج للمصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته: فإنها متضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:

أحدهما: أن العبد وأهله وماله مِلْكٌ لله -عز وجل-، وقد جُعِلَ عند العبد عارية، فإذا أخده منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير. وأيضًا؛ فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضا فإنه ليس الذي أوجده عن عدمه حتى يكون ملكه حقيقة ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقي عليه وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بدايته ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء. اهـ

وأيد ذلك الحديث النبوي الذي يعلم المصاب أن يقول أيضًا:" إن لله ما أخذ، ولله ما أعطي ".

وفى الصحيحين وغيرهما في قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة، حين مات ابن لهما، وأبو طلحة خارج، فقامت الأم إلى الصبي فغسلته وكفنته وحنطته (طيبته بالحنوط) وسجت عليه ثوبًا، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ فقالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، (تعني بالموت) وظن هو أنه استراح بالنوم لمجيء العافية، ثم تعرضت له فأصاب منها، فلما أراد أن يخرج قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، إن العارية مؤداة إلى أهلها، فقالت: إن الله أعارنا فلانًا (وسمت ابنها) ثم أخذه منا، فاسترجع، فصلى مع النبي ﷺ فأخبره بما كان منهما، فقال رسول الله ﷺ:" لعل الله أن يبارك لكما فى ليلتكما ". فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما -أي من ابنهما عبد الله- تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن.

فلا ريب أن الإيمان بهذه الحقيقة يعين على الصبر، ويهون على المصاب ألم المصيبة.

ما دام صاحب الوديعة أو العارية قد استرجعها، إنه صاحب الفضل حين يمنح، وصاحب الحق حين يسترد ما منح، وخصوصًا أنه في هذه وتلك لا يصدر إلا عن حكمه. اهـ (الصبر فى القرآن ص 83-85)

7- ومما يعين على الصبر: اليقين بحسن جزاء المصيبة وثوابها فى الآخرة:

وهذا من أعظم العلاج الذي يبرد حرارة المصيبة، ويعين على الصبر.

والقرآن يشير إلى أن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله تعالى: وذلك حين يرجعون إليه، ويقفون بين يديه، فيعوضهم عن صبرهم أكرم العوض، ويمنحهم أعظم الأجر، وأجزل المثوبة، حتى ورد:" إن أهل العافية يتمنون يوم القيامة لو أن أجسامهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا، لما يرون من عظم ثواب الله لأهل البلاء ".

ولا نجد في القرآن الكريم شيئا ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر، فهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتفخيم، فيقول: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (العنكبوت:59،58)

وهو يبين أن الصابرين إنما يجزون أجرهم بأحسن ما عملوا فضلا من الله ونعمة، حيث يقول تعالى:

{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:96) وأخيرًا يصرح بأن أجر الصابرين غير معدود بعد، ولا محدود بحد، ولا محسوب بمقدار، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10)

قال بعض المفسرين: يغرف لهم غرفًا، ويصب عليهم صبًّا، هذا مع قوله تعالى فى جزاء المخلصين من عباده {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} (الصافات: 41)

وإذا كان هذا هو جزاء الصابرين عند الله، فالواجب على المؤمن إذا أصابته مصيبة أن يتذكر هذه الحقيقة الكبيرة: أن مصيره إلى الله مهما تطل هذه الحياة، وأن أجره عنده لن يضيع، وهذا ما وصف به القرآن الصابرين حين قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}

(البقرة: 155-156)

فإذا قالوا: (إِنَّا لِلَّهِ) تذكروا بها حقيقة أنفسهم، وأنهم ملك لله، وإذا قالوا: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) تذكروا حسن الجزاء عند ربهم، فدفعهم ذلك إلى حسن الصبر والسلوان.

وقد جاء عن عمر t قوله:" ما أصبت ببلاء إلا كان لله على فيه أربع نعم: أنه لم يكن فى ديني، وأنه لم يكن أكبر منه، وأني لم أحرم الرضا به، وأني أرجو ثواب الله عليه ".

فكان رجاء ثواب الله على البلاء -في نظر عمر- أحد الأسباب المُلطِّفة له، وإلى حد نقله من دائرة المصائب التي يصبر عليها، إلى دائرة النعم التي يشكر عليها.

وحدثوا: أن امرأة فتح الموصلي- وكانت من الصالحات – عثرت فانقطع ظفرها، وفى هذا من الألم ما فيه، ولكنها حمدت الله وضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

إن يقين الإنسان بحسن الجزاء، وعظم الأجر عند الله، على البلية يخفف مرارتها على النفس، ويهون من شدة وقعها على القلب، وكلما قوى اليقين، ضعف الإحساس بألم المصيبة، حتى تنتقل لدى النفس من المكاره إلى المحاب، كما رأينا فيما جاء عن عمر.

ومن دلائل ذلك ما جاء في الحديث من أدعية النبي ﷺ أنه كان يقول:" الَّلهمَّ اقْسِم لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ ما تحُولُ بِه بَيْنَنَا وبَينَ مَعْصِيتِك، ومن طَاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِه جَنَّتَكَ، ومِنَ اْليَقيٍن ما تُهِوِّنُ بِه عَلَيْنا مَصَائِبَ الدُّنيَا " (رواه الترمذي والنسائي من حديث ابن عمر-رضى الله عنهما-)

وقال أبو طالب المكي-رحمه الله- كما في كتابه" قوت القلوب":" وأصل قلة الصبر ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له، لأنه لو قوى يقينه، كان الآجل من الوعد عاجلًا، إذا كان الواعد صادقًا، فيحسن صبره، لقوة الثقة بالعطاء، ولا يصبر العبد إلا بأحد معنيين: مشاهدة العوض، وهذا مقام أصحاب اليمين، والنظر إلى المعوض، وهو مقام المقربين ". اهـ (الصبر في القرآن ص 85-87)

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه" مدارج السالكين: 2/166":

وعلى حسب ملاحظة حسن الجزاء والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض، وهذا يخفف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات. اهـ بتصرف

 

ولعل سائل ممن لا يعرف الحكمة من الابتلاء يسأل ويقول: لما أهل الكفر والشرك والعصيان في عافية، ومعهم الجاه والسلطان والمال، وأهل الإيمان دائما فى ابتلاء، وقد سلط عليهم الأعداء، وحظهم من حظوظ الدنيا قليل، فهم في ضيق من العيش وقد أجاب ابن الجوزي -رحمه الله- على هذا التساؤل فذكر في كتابه صيد الخاطر ص101 " فصل بعنوان " الصبر" قال فيه:" ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به، فأما الصبر: فهو فرض، وأما الرضى فهو فضل ".

وإنما الصبر لأن القدر يجرى في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل فى حكمة جريان القدر.

فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورًا بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى لا يدري ما يصنع بالمال، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهى كعدمه، ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبه عليه.

ثم ترى خلقًا من أهل الدين وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالمفحينئذ يجد الشيطان طريقًا للوسواس، ويبتدئ بالقدح في حكمة القدر، فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من ضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس في ذلك. وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين. ومما يقوي الصبر على الحالتينالنقل، والعقلأما النقل، فالقرآن والسنة.

أما القرآن، فمنقسم إلى قسمين: أحدهمابيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (آل عمران: 178) وقال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} (الزخرف: 33) وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الإسراء: 16)

وفي القرآن من هذا كثير.

والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (آل عمران: 142) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} (البقرة: 214) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (التوبة: 16)

وفي القرآن من هذا كثير.

وأما السنة، فمنقسمة إلى قول وحال: أما الحال، فإنه ﷺ كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمرt ، وقال :كسرى وقيصر في الحرير والديباج! فقال ﷺ:" أفي شك أنت يا عمر؟! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟". (رواه البخاري ومسلم)

وأما القول، فكقوله -عليه الصلاة والسلام-:" لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء ". (رواه الترمذي بسند ضعيف، وصححه الألباني في الصحيحة:943)

وأما العقل، فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها: أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر، فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللًا

ومنها أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى؛ لأن ذلك البسط يوجب عقابًا طويلًا، وهذا القبض يؤثر انبساطًا في الأجر جزيلًا، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب، والمراحل تطوى، والركبان في السير الحثيث.

ومنها: أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب؛ بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ، تنظف، ولبس أجود ثيابه، فمن ترفه وقت العمل، ندم وقت تفريق الأجرة، وعوقب على التواني فيما كلف فهذه النبذة تقوي أزر الصبر، وأزيدها بسطًا فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين؟! أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة([60])؟! وبعليّ إلا مثل ابن ملجم([61])؟! أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا-عليهما السلام- إلا جبار كافر؟!

ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا، لرأت المسبب لا الأسباب، والمقتدر لا الأقدار، فصبرت على بلائه، إيثارا لما يريد. ومن هاهنا ينشأ الرضا، كما قيل لبعض أهل البلاءادع الله بالعافية! فقال: أحبه إليّ أحبه إلى الله -عز وجل-!!

إن كان رضاكم في سهري        فســلام الله عـــلى وســـني([62])

ثم ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- فصلًا بعنوان " الرضا"، فقال: لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم، هتف بي هاتف من باطني: دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت. وَصِفْ حال الرضا، فإني أجد نسيمًا من ذكره فيه روح للروح!

فقلت: أيها الهاتف! اسمع الجواب! وافهم الصواب! إن الرضا من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته، رضيت بقضائه وقد يجري في ضمن القضاء مرارات، يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف، فتقل عنده المرارة، لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوةكما قال القائل:

عـــــــذابـــــه فيــــك عــــــذب     وبعـــــده فيك قـــــــــرب

وأنت عنــــــدي كـروحي     بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني     لمــــــا تحــــــب أحـــب

وقال بعض المحبين في هذا المعنى:

ويقبح من سواك الفعل عندي       فتفعلـــه فيـــحسن منـــــك ذاك

فصاح بي الهاتفحدثني، بماذا أرضى؟! قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته؟! فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضا مما لا يدخل!

فقلت لهنعم ما سألت، فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد: إرض بما كان منه، فأما الكسل والتخلف، فذاك منسوب إليك، فلا ترض به من فعلك. وكن مستوفيًا حقه عليك، مناقشًا نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها بالتواني في المجاهدة.

فأما ما يصدر من أقضيته المجردة، التي لا كسب لك فيها، فكن راضيًا بها، كما قالت رابعة رحمة الله عليها، وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزبلة فيأكل، فقيلهلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟! فقالتإن الراضي لا يتخير، ومن ذاق طعم المعرفة، وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضا عنده ضرورة. فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة، فقد قال سبحانه وتعالى:" لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ([63])". فذلك الغنى الأكبر ... ووافقراه...! اهـ

وأخيرًا: فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، ومن ثمرات الصبر: الرضا:

فلا بد أن يعلم المبتلى أن حظه من المصيبة ما يحدث له فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. فاختر لنفسك خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا كنت في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له رضًا وفرحًا بقضائه كنت في ديوان الراضين.

- أخرج ابن ماجه والترمذي عن أنس t أن النبي ﷺ قال:" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ".

- وأخرج ابن ماجه أيضًا عن جابر t قال: قال رسول الله ﷺ:" إنَّ روحَ القدُسِ نفثَ في رَوعي أنَّهُ لَن تموتَ نفسٌ حتَّى تستَكمِلَ رزقَها فاتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن فى الشك والسخط ". (صحيح الجامع:2081)

وفي قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97)

- قال أبو معاوية الأسود -رحمه الله- في تفسير الحياة الطيبة هي:" الرضا والقناعة ".

- وقال الحسن-رحمه الله-:" من رضي بما قسم له، وسعه وبارك الله فيه، ومن لم يرض لم يسعه، ولم يبارك له فيه ".

فمن أنفع الأدوية للمبتلى أن يوافق ربه وإلهه فيما قضاه ويرضى به.

- يقول أبو الدرداءt:" إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى العبد به ".

فلا لِلَطْمِ الخدود ولا لشق الجيوب، ولا الدعاء بالويل والثبور والتسخط على المقدور، والجزع على المفقود، فإن هذا لا يرد ما فات.

- قال بعض السلف وقد عزى مُصابًا:" إن صبرت فهي مصيبة واحدة وإن لم تصبر فهما مصيبتان ".

أي: مصيبة على فقد الأحباب، والمصيبة الثانية ضياع الأجر.

- ومن أمثال العرب:" فقد الصبر أدهي المصيبتين ". (جنة الرضا:3/14)

- قال علي بن أبي طالب t:" من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله ".

فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.

- يقول المنبجي -رحمه الله – كما في تسلية أهل المصائب ص45: وليحذر العبد كل الحذر أن يتكلم في حال مُصيبته وبكائه بشيء يُحبط به أجره، ويسخط به ربه، مما يشبه التظلم، فإن الله تعالي عدل لا يجور، وعالم لا يضل ولا يجهل، وحكيم أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئًا إلا لحكمة، فإنه سبحانه له ما أعطي وله ما أخذ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء له الخلق والأمر، بل إنما يتكلم العبد بكلام يُرضي به ربه، ويكثر به أجره، ويرفع به قدره.

 

- وفي سلوة الحزين يُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت:" يا أبتي، إن في الله عوضًا عن فقدك، وفي رسوله ﷺ من مصيبتك أسوة.. ثم قالت: ربي لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقرًا من الزاد، مخشوشن المهاد، غنيًّا عما في أيدي العباد، فقيرًا إلى ما في يدك يا جوَّاد، وأنت يا ربي خير من نزل بك المرملون، واستغني بفضلك المقلون، وولج في سعة رحمتك المذنبون، اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك ".

ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.

 

- قال بعضهم:" لن يرى في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله تعالى على كل حال، فمن وهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات ".

فالرضا هو باب الله الأعظم وجنة الدنيا، ومستراح العابدين. وأهل الرضا تارة يلاحظون المُبتلى وخيرته لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه، وتارة يلاحظون عظمته وجلاله وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك حتى لا يشعروا بالألم.

 

- أصبح أعرابي وقد ماتت له أباعر كثيرة فقال:

لا والذي أنا عبـــد في عبـادتـــه        لولا شماتة أعداء ذوي إحن

ما سرني أن إبلي في مباركها        وأن شيئًا قضـاه الله لم يكن

 

- قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبشر قال: فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم.

 

- وقال أبو عبد الله البراشي -رحمه الله-:" من وهب له الرضى، فقد بلغ أقصى الدرجات ".

- وقال أيضًا:" لم ير في الآخرة أرفع درجات من الراضين عن الله –عز وجل- على كل حال ".

(انظر هذه الآثار في تسلية أهل المصائب لأبى عبد الله محمد بن محمد المنبجي الحنبلي)

 

 

فمن صبر على قضاء الله رزقه الله نعمة الرضا:

يقول ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "مدارج السالكين: 2/214 ":" والرضا من أعمال القلوب، وهو نظير الجهاد الذي هو من أعمال الجوارح، وكل واحد منهما ذروه سنام الإيمان ". اهـ

وأخرج ابن المبارك بسند صحيح عن سعيد بن مرثد الهمداني، أن أبا الدرداء t قال:" ذروة الإيمان أربع خلال: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز جل ".

 

وذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتابه " مدارج السالكين: 2/227": أن سعد بن أبي وقاص t لما قدم إلى مكة، وقد كان كف بصره، جاءه الناس يهرعون إليه، كل واحد يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام، فتعرفت عليه فعرفني وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم، فذكر قصة قال في آخرها: فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك، فرد الله عليك بصرك، فتبسم وقال: يا بنى، قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري ".

- وكان عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- كثيرًا ما يدعو: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته ". (مدارج السالكين: 2/225)

- وفي وصية لقمان لابنه: " أوصيك بخصال تقربك من الله، وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت "

- وقال الحسين بن علي بن يزيد-رحمه الله-: قال رجل لفتح الموصلي: ادع الله، فقال: " اللهم هبنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك، وأرضنا بقضائك " (الرضا عن الله ص115)

- وقال وهب بن منبه-رحمه الله -:" وجدت في زبور داود يقول الله تعالى:" يا داود هل تدري من أسرع الناس ممرًا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي، وألسنتهم رطبة من ذكري ".

- وها هي أعرابية اسمها أم غسان كما في " عيون الأخبار:" فقدت جميع أبنائها وفوق ذلك كف بصرها، مصيبة وأي مصيبة؟ كانت تعيش بمفردها وتقول:

لكل اجتماع من خليلين فـرقة         وكل الذي دون الممات قليل

وإن افتقادي واحدًا بعد واحـــــد          دليـــل على ألا يـــــدوم خلـيـــل

الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين بالله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء.

ويقول أحد المعزين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ توفيت أمه قال له:" إن كانت وفاتها عظة لك فأعظم الله أجرك على موتها، وإن لم تكن لك عظة فأعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي: أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة ولم يرد عليك أحدٌ حكمًا، فكيف بحكم واحد عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟ فسري عنه وكشف ما به وقال: تعزيت تعزيت ".

- وروي ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة -رحمه الله - أنه مات له ابن يقال له يحيى، فلما نزل بقبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات؟

فلله ما أحسن فهمهم، ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم. وثقتهم بما أعطى الله تعالى من ثواب للصابرين المحتسبين.

 

وصدق القائل حيث قال:

أقول وقد فاضت دموعي غزيـــرة          أري الأرض تبقي والأخلاء تــذهب

أخلائي لو غير الممات أصـابكم          جزعت ولكن ما على الموت معتب

قال بعض السلف:" ارض عن الله في جميع ما يفعله بك، فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا ليشفيك ولا أماتك إلا ليحييك، فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين، فتسقط من عينة ". (مدارج السالكين: 2/216)

يقول صاحب كتاب "حدائق ذات بهجة ص 78 ":" إن الرضا بالله ربًّا يلزمك أن ترضى بأحكامه الشرعية، فترضى بأوامره ممتثلًا، وترضى بنواهيه مجتنبًا، وترضى بأقداره المؤلمة، فترضى بكل نعمة ومصيبة، وكل منع وعطاء، وشدة ورخاء، ترضى عنه سبحانه إذا عافاك وشفاك، ومن كل بلاء حسن أبلاك، وترضى عنه إذا أمرضك وأسقمك، وترضى عنه إذا وضعك في السجن وحيدًا فريدًا، ترضى عنه إذا أغناك وحباك، وترضى عنه إذا أفقرك وأعدمك، لأنه سبحانه يحب أن يرضى عنه، فهو حكيم لا يُشك في حسن وصلاح قضائه، وهو مدبر لا يُتهم في جميل تدبيره، وهو يختار الأجمل والأكمل والأفضل لعبده، فلا يعارض اختياره بكرهٍ، ولا يصادم تقديره برفض، ولا يجابه فعله بردٍّ.

ويقبح من سواك الفعل عندي       وتفعلــــه فيــــحسن منــــك ذاك

والرضا باب اليقين الأكبر، وبستان العبودية الأخضر وهو مستنزل الرحمة، ومستدر الزيادة، ومستوجب الرضا منه {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: ١١٩(، والرضا مطردة للهموم والغموم، مذهبة للأحزان، وهو علاج التردد والحيرة والاضطراب، لأنه التسليم بالحكمة، والتصديق بالشرع، والركون إلى اللطف والاطمئنان لحسن الاختيار، من دخل بيت الرضا فهو آمن، ومن استقبل كعبته فهو مخبت، ومن صلى في محراب الرضا فهو حليم أواه منيب. اهـ

 

صور من صبر الذين كانوا قبلنا:

مر بنا أن الابتلاء في هذه الدنيا سنة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وهذه صور من ابتلاءات من كانوا قبلنا، وكيف صبروا عليها، لتكون عبرة وسلوًا لنا:

وقد جاء في صحيح البخاري من حديث خباب بن الأرت t قال:" شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ".

صبر ماشطة بنت فرعون:

أخرج الإمام أحمد ‏ والطبراني وابن حبان عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ‏‏: "‏ ‏لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا ‏جِبْرِيلُ‏،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى ([64]) ‏‏مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏ ‏فِرْعَوْنَ:‏ ‏أَبِي؟ قَالَتْ: لا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ، قَالَتْ: أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَاهَا فَقَالَ: يَا فُلانَةُ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ([65])، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا، قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ؛‏ ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ ".‏ ‏

صبر جريج العابد:

أخرج البخاري من حديث أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:" لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلَّا ثَلاثَةٌ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وصاحِبُ جُرَيْجٍ، وكانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عابِدًا، فاتَّخَذَ صَوْمعةً، فَكانَ فيها، فأتَتْهُ أُمُّهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي، فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: يا رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أتَتْهُ وهو يُصَلِّي فقالَتْ: يا جُرَيْجُ فقالَ: أيْ رَبِّ أُمِّي وصَلاتِي، فأقْبَلَ علَى صَلاتِهِ، فقالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى يَنْظُرَ إلى وُجُوهِ المُومِساتِ ([66])، فَتَذاكَرَ بَنُو إسْرائِيلَ جُرَيْجًا وعِبادَتَهُ وكانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بحُسْنِها، فقالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قالَ: فَتَعَرَّضَتْ له، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فأتَتْ راعِيًا كانَ يَأْوِي إلى صَوْمعتِهِ، فأمْكَنَتْهُ مِن نَفْسِها، فَوَقَعَ عليها فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا ولَدَتْ قالَتْ: هو مِن جُرَيْجٍ، فأتَوْهُ فاسْتَنْزَلُوهُ وهَدَمُوا صَوْمعتَهُ وجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فقالَ: ما شَأْنُكُمْ؟ قالوا: زَنَيْتَ بهذِه البَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فقالَ: أيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجاؤُوا به، فقالَ: دَعُونِي حتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ في بَطْنِهِ، وقالَ: يا غُلامُ مَن أبُوكَ؟ قالَ: فُلانٌ الرَّاعِي، قالَ: فأقْبَلُوا علَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ ويَتَمَسَّحُونَ به، وقالوا: نَبْنِي لكَ صَوْمعتَكَ مِن ذَهَبٍ، قالَ: لا، أعِيدُوها مِن طِينٍ كما كانَتْ، فَفَعَلُوا.......". الحديث.

صبر أصحاب الأخدود:

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب بن سنان الرومي t قال: قال رسول الله ﷺ:" كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ له سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي قدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكانَ في طَرِيقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فأعْجَبَهُ، فَكانَ إذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلكَ إلى الرَّاهِبِ، فَقالَ: إذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وإذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبيْنَما هو كَذلكَ إذْ أَتَى علَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقالَ: اليومَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فأخَذَ حَجَرًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْكَ مِن أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِه الدَّابَّةَ حتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهِبَ فأخْبَرَهُ، فَقالَ له الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ اليومَ أَفْضَلُ مِنِّي؛ قدْ بَلَغَ مِن أَمْرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فلا تَدُلَّ عَلَيَّ. وَكانَ الغُلَامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ ([67]) وَالأبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِن سَائِرِ الأدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كانَ قدْ عَمِيَ، فأتَاهُ بهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقالَ: ما هَاهُنَا لكَ أَجْمَعُ، إنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقالَ: إنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا إنَّما يَشْفِي اللَّهُ، فإنْ أَنْتَ آمَنْتَ باللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ باللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ، فأتَى المَلِكَ فَجَلَسَ إلَيْهِ كما كانَ يَجْلِسُ، فَقالَ له المَلِكُ: مَن رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قالَ: رَبِّي، قالَ: وَلَكَ رَبٌّ غيرِي؟ قالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فأخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتَّى دَلَّ علَى الغُلَامِ، فَجِيءَ بالغُلَامِ، فَقالَ له المَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قدْ بَلَغَ مِن سِحْرِكَ ما تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ! فَقالَ: إنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا؛ إنَّما يَشْفِي اللَّهُ، فأخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتَّى دَلَّ علَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بالرَّاهِبِ، فقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى، فَدَعَا بالمِئْشَارِ([68])، فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بجَلِيسِ المَلِكِ فقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى، فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ به حتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بالغُلَامِ فقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا به إلى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا به الجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ ([69])، فإنْ رَجَعَ عن دِينِهِ، وإلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا به فَصَعِدُوا به الجَبَلَ، فَقالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شِئْتَ، فَرَجَفَ بهِمِ الجَبَلُ ([70]) فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ له المَلِكُ: ما فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا به فَاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ ([71])، فَتَوَسَّطُوا به البَحْرَ، فإنْ رَجَعَ عن دِينِهِ، وإلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا به، فَقالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بهِمُ السَّفِينَةُ ([72]) فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ له المَلِكُ: ما فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَقالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ به، قالَ: وَما هُوَ؟ قالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ ([73])، وَتَصْلُبُنِي علَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ ([74])، ثُمَّ قُلْ: باسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي؛ فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلكَ قَتَلْتَنِي، فجَمَع النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ علَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبْدِ القَوْسِ، ثُمَّ قالَ: باسْمِ اللهِ، رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقالَ النَّاسُ: آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ. فَأُتِيَ المَلِكُ فقِيلَ له: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ ([75])؛ قدْ آمَنَ النَّاسُ، فأمَرَ بالأُخْدُودِ ([76])في أَفْوَاهِ السِّكَكِ([77])، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقالَ: مَن لَمْ يَرْجِعْ عن دِينِهِ فأحْمُوهُ فِيهَا([78])، أَوْ قيلَ له: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمعهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ ([79]) أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِرِي؛ فإنَّكِ علَى الحَقِّ ".

 

صبر أولي العزم من الرسل:

أمر الله نبيه ﷺ وخاتم رسله، وصفوة خلقه محمد بن عبد الله أن يتخذ من أولي العزم من الرسل أسوة في صبرهم، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35)

وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن مسروق عن عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله ﷺ حدثها بعد صيام طويل صامه ثم قال: يا عائشة! إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة! إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل ([80]) إلا بالصبر على مكروهها، والصبر على محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله ". (ضعيف) (تفسير ابن كثير:4/172)

 

 

صبر إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام-:

فقد رأى إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل- ورؤيا الأنبياء وحي- فجاء بابنه وعرض عليه الأمر قائلًا: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} (الصافات:102) فما كان من إسماعيل -عليه السلام- إلا أنه قال لأبيه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}(الصافات:102)، فقال له: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ولم يقل: افعل ما رأيت في منامك، لأنه يعلم أن هذا أمر من الله تعالى، ولا يمكن مخالفته، واستسلم إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام- لأمر الله، وتلَّه أبوه للجبين-أي جعل وجهه للأرض حتى لا تتلاقى الأعين فيرق القلب ويتحرك شفقة ورحمة على الولد، وتهيأ إسماعيل للذبح بالسكين، وقد بلغ الابتلاء غايته، وحقق ثمرته، ونجح الوالد والولد كلاهما في الامتحان، ونفذا ما أمر الله به دون تردد أو ارتياب، فجاءت البشرى من رب العالمين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات:104-107) وبهذا دخل إسماعيل ديوان الصابرين، وسجل هذا القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ([81]) كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ(85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}  (الأنبياء: 86،85)

صبر يعقوب -عليه السلام-:

لقد امتحن يعقوب -عليه السلام- بفراق أحب أبنائه إليه: يوسف -عليه السلام- ومن بعده شقيقه الأصغر- بنيامين-، ومع كون هذا الأمر شديد على يعقوب -عليه السلام- لشدة حبه ليوسف، ومع ذلك تجمَّل وتحلى بالصبر، فقال بعد فراق يوسف -عليه السلام- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}  (يوسف:18)، وقال بعد فراق ابنه الثاني: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:83)، فهو ليس صبر اليائس القنوط، إنما هو صبر الآمل الراجي في فضل الله. الواثق بأن بعد العسر يسرًا، وبعد الفرقة اجتماعًا، فقال: {عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} فاستجاب الله له وجمع بينه وبين بنيه.

 

 

 

صبر أيوب -عليه السلام-:

قال الله تعالى في شأنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء:83( فلقد لبث هذا النبي الكريم في المرض ثمانية عشر عامًا، حتى رفضه القريب والبعيد اللهم إلا زوجته واثنين من أبناء عمومته، فصبر واحتسب، فشفاه الله تعالى وأثنى عليه وأعطاه من خير الدنيا. فقد أخرج ابن حبان بسند صحيح عن أنس بن مالك t أن رسول الله ﷺ قال:" إنَّ نبيَّ اللهِ أيُّوبَ لبث به بلاؤُه ثمانيَ عشرةَ سنةً، فرفضه القريبُ والبعيدُ، إلَّا رَجلَيْن من إخوانِه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدُهما لصاحبِه ذاتَ يومٍ: تعلمُ واللهِ لقد أذنب أيُّوبُ ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين، فقال له صاحبُه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمانيَ عشرةَ سنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ ما به، فلمَّا راحا إلى أيُّوبَ لم يصبِرِ الرَّجلُ حتَّى ذكر ذلك له، فقال أيُّوبُ: لا أدري ما تقولان غير أنَّ اللهَ تعالَى يعلمُ أنِّي كنتُ أمرُّ بالرَّجلَيْن يتنازعان، فيذكران اللهَ فأرجِعُ إلى بيتي فأُكفِّرُ عنهما كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حقٍّ، قال: وكان يخرُجُ إلى حاجتِه فإذا قضَى حاجتَه أمسكته امرأتُه بيدِه حتَّى يبلُغَ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها وأُوحي إلى أيُّوبَ أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص: 42) فاستبطأته، فتلقَّته تنظُرُ وقد أقبل عليها قد أذهب اللهُ ما به من البلاءِ وهو أحسنُ ما كان، فلمَّا رأته قالت: أيْ بارك اللهُ فيك، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتلَى، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أشبهَ منك إذ كان صحيحًا، فقال: فإنِّي أنا هو: وكان له أندَران أي ( بيدران): أندَرُ للقمحِ وأندَرُ للشَّعيرِ، فبعث اللهُ سحابتَيْن، فلمَّا كانت إحداهما على أندرِ القمحِ أفرغت فيه الذَّهبَ حتَّى فاض، وأفرغت الأخرَى في أندرِ الشَّعيرِ الورِقَ حتَّى فاض ".

 

فانظر لهذا الفضل الكبير الذي نالهُ هذا النبي الكريم لمّا صبر على المرض، بل نال أفضل من ذلك، أن أثنى الله تعالى عليه فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 44)

وهكذا كشف الله تعالى عنه البلاء بعد سنوات طويلة من الصبر، بل وخلَّد الله تعالى ذكره في كتابه الكريم فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ(42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ(43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}   (ص: 44،41)  فيا له من مدح أن يقول الله العظيم الجليل عن عبدٍ من عباده: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وهكذا ينبغي أن تكون أيها الصابر المحتسب؛ عندما يحل بساحتك البلاء أن يقال عنكَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ} ويقال عنك أيضًا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}

 

صبر النبي - صلى الله عليه وسلم -:

- ومن صور الصبر على الابتلاء الذي تعرض له النبي ﷺ ما أخرجه البخاري عن عروة أن عائشة-رضي الله عنها- زوج النبي ﷺ حدثته أنها قالت للنبي ﷺ: هلْ أتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ قالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أرَدْتُ، فانْطَلَقْتُ وأنا مَهْمُومٌ علَى وجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلَّا وأنا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فإذا فيها جِبْرِيلُ، فَنادانِي فقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وما رَدُّوا عَلَيْكَ، وقدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، فَنادانِي مَلَكُ الجِبالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، فقالَ ذلكَ فِيما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ ([82])؟، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا ".

- وأخرج البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود t قال:" بيْنَا رَسولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدٌ وحَوْلَهُ نَاسٌ مِن قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، إذْ جَاءَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ بسَلَى جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ علَى ظَهْرِ النبيِّ ﷺ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ- عَلَيْهَا السَّلَامُ-، فأخَذَتْه مِن ظَهْرِهِ، ودَعَتْ علَى مَن صَنَعَ ذلكَ، فَقالَ النبيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ المَلَأ مِن قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وشيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُقْبَةَ بنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ(شك شعبة)، فَلقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَومَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا في بئْرٍ غيرَ أُمَيَّةَ بن خلف، أَوْ أُبَيٍّ، فإنَّه كانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ فلم يُلْقَ في البِئْر ".

- وأخرج البخاري من حديث عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: سَأَلْتُ عبد الله بْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: فقلت: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ ﷺ، قالَ: بيْنَا النبيُّ ﷺ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ ﷺ، وقالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) (غافر: 28) الآيَةَ.

- ومن الابتلاءات التي تعرض لها النبي ﷺ وصبر عليها أن وصفه المشركون بالجنون والسحر والكذب، قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (الحجر:6)، وقال تعالى: (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) (ص:4)

- وفي غزوة أُحُد جُرح النبي ﷺ، وكسرت رباعيته، فجعل يسلت الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)

- ومن الابتلاءات الشديدة التي تعرض لها النبي ﷺ الذي فاضت طهارته على الكون كله؛ أن يُتهم في عِرضه، ويتهم في زوجته وحبيبته الحصان الرزان عائشة -رضي الله عنها- فيصبر ويحتسب، حتى أنزل الله في شأنها قرآنًا يتلى إلى قيام الساعة؛ يشهد ببراءتها-رضي الله عنها-.

صبر معاذ بن جبل -رضي الله عنه-:

وجاء في سير أعلام النبلاء للذهبي -رحمه الله -:أن عمرو t  خطب في الناس يوم وقع الطاعون بأرض الشام فقال: إن هذا الطاعون رجز ففروا منه بالأودية والشعاب. فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة t فغضب وجاء يجر ثوبه ونعلاه في يده قائلا: لقد صحبت رسول الله ﷺ فاسمعوا، الطاعون رحمة ربكم ودعوة نبيكم، يستشهد الله به أنفسكم ويزكي أعمالكم، فبلغ ذلك معاذًا t وهو يتوق للشهادة فقال: اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه. لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب ابنتاه الاثنتان وتموتان، فدفنهما بقبرٍ واحد وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن وهو من أعز أبنائه. فقال معاذًا لابنه: كيف تجدك؟ قال: أبتاه، الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فقال معاذ t: ستجدني إن شاء  الله من الصابرين. ثم توفي رحمه الله، ثم أصاب الطاعون كف معاذ ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فجعل يقبلها ويقول: لهي أحب إلى من حمر النعم، ثم يغشي عليه، فإذا أسري عنه قال: يا رب غم غمك واخنق خنقك فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك. ثم لقي الله U بعد أن احتسب أهل بيته جميعًا فما كان إلا الرضا والتسليم بقضائه وقدره.

صبر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-:

أتُهم سعد بن أبي وقاص t بجملة من الاتهامات وهو منها برئ، وصبر على هذا الإفك والبهتان.

فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن سمرة t قال:"  شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إلى عُمَرَ t، فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قالَ أَبُو إسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا واللَّهِ فإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بهِمْ صَلَاةَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ ما أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ العِشَاءِ، فأرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بكَ يا أَبَا إسْحَاقَ، فأرْسَلَ معهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إلى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عنْه أَهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إلَّا سَأَلَ عنْه، ويُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ منهمْ يُقَالُ له أُسَامَةُ بنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قالَ: أَمَّا إذْ نَشَدْتَنَا فإنَّ سَعْدًا كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ، ولَا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قالَ سَعْدٌ: أَما واللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ، وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ ".

- ولما قدم سعد بن أبي وقاص إلى مكة، وقد كان كُف بصره، جاءه الناس يُهرعون إليه كل واحد، يسأله أن يدعو له، فيدعو لهذا ولهذا، وكان مجاب الدعوة، قال عبد الله بن السائب: فأتيته وأنا غلام فتعرفت عليه فعرفني، وقال: أنت قارئ أهل مكة؟ قلت: نعم فذكر قصة، قال في آخرها: فقلت له: يا عم، أنت تدعو للناس، فلو دعوت لنفسك فرد عليك بصرك؟! فتبسم وقال: يا بني قضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري. (مدارج السالكين: 2/216)

صبر عروة بن الزبير -رضي الله عنه-:

سافر عروة من المدينة إلى دمشق، وفي الطريق بوادي القرى أصيبتْ رجلُه بأَكَلَةٍ ([83])، ولم يَكَد يَصِل دمشق حتى كانت نصفُ ساقه قد تلِفتْ، فدخل على الخليفة الوليد بن عبدالملك، فبادر الوليد باستدعاء الأطبَّاء العارفين بالأمراض وطرق علاجها، فأجمعوا على أن العلاج الوحيد هو قطعها قبل أن يَسريَ المرض إلى الرِّجل كلِّها حتى الوَرِك، وربما أكلتِ الجسمَ كله، فوافق عروةُ بعد لأْيٍ على أن تُنْشَر رِجله، وعرض عليه الأطباء إسقاءه مُرْقِدًا؛ حتى يغيب عن وعيه فلا يشعر بالألم، فرفض عروة ذلك بشدة قائلًا: لا والله، ما كنت أظن أحدًا يشرب شرابًا، أو يأكل شيئًا يُذهِب عقلَه، ولكن إن كنتم لا بُدَّ فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، فقطعوا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي؛ احتياطًا أن لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تضوَّر ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزَّاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحدًا، ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ، اللهم إني لم أمشِ بها إلى سوء قط.

وكان قد صحب بعضَ بنيه، ومنهم ابنه محمد الذي هو أحب أولاده إليه، فدخل دارَ الدواب فرفسته فرسٌ فمات، فجاء المعزون إلى أبيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعةً فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت، فلمَّا قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، فما سُمع يَذكُر رِجْله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى الذي أصابته فيه الأكلة، وهناك قال: (لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) (الكهف:62).

(انظر وفيات الأعيان لابن خلكان:2 / 418 – 421) (البداية والنهاية: 9/ 101 – 103)

 

فهذه نماذج من مواكب الصابرين، فأين أنت منهم يا ضعيف العزم والصبر؟ فهذا سبيل تعب فيه آدم، وجاهد فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح الحصور يحيي، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، واتهم بالسحر والجنون نبي الله الكريم، وكسرت رباعيته، وشج رأسه ووجهه، وقُتِل عمر مطعونًا، وذو النورين، وعليّ، والحسين، وسعيد بن جبير، وعذب ابن المسيب، ومالك، والإمام أحمد......فلا سبيل ولا نجاة ولا فلاح لسالكي هذا الطريق إلا الصبر.

 

 

وفي الختام: نسألك اللهم أن ترزقنا الصبر على طاعتك، والصبر عن معصيتك، والصبر على أقدارك، حتى نكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. واجعلنا اللهم من الصابرين في البأساء والضراء، وحين البأس، والصابرين في السراء والضراء، واجعل صبرنا فيك ولك، واجعلنا من الذين قلت فيهم :{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)22 (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ)23(سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: ٢٢ – ٢٤)

 

 

وبعد...

فهذا آخر ما تيسَّر جمعه في هذه الرسالة.

وأسأل الله– تعالى- أن يكتب لها القبول، وأن يتقبَّلها منّي بقبول حسن، كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بها مؤلفها وقارئها، ومَن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا شأن أي عمل بشري فإنه يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صوابًا فادعُ لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي:

وإن وجدت العيب فسد الخللا      جلّ من لا عيب فيه وعلا

فاللهم اجعل عملي كله صالحًا ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه نصيبًا

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا والله – تعالى– أعلى وأعلم. 

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك



[1]- كبا الجواد يكبو كبوة إذا عثر. انظر (لسان العرب:15/ 213).  

[2] - نبا السيف إذا كلّ ولم يقطع. انظر (لسان العرب:15/ 301).

[3] - رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك والخطيب البغدادي، وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع:6806).

[4] - الآخيّة بالمد والتشديد: عود أو حبل يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعروة تشدّ إليه الدّابّة. انظر (النهاية لابن الأثير :1/ 29)،

   و(لسان العرب: 14/ 23).

-[5] وذكر هذا ابن القيم عن الإمام أحمد في "مدارج السالكين" (2/ 152). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى" (15/ 39): "وقد ذكر اللَّه الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا ".

[6]- قال القرطبي- رحمه الله -: والمصيبة: هي كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه.

-[7] قال سعيد بن المسيب كما عند" البخاري تعليقًا :3/137": والعلاوة: ما يُحمل فوق العدلين على البعير.

[8]- يقصد الآية السابقة.

[9] - ثمرة فؤاده: قال ابن الأثير: يقال للولد الثمرة، وذلك لأن الثمرة هي ما تنتجه الشجرة، وكذلك الولد من الرجل ما ينتجه.

[10]- المسح: الفراش.

[11] - الذمام: الحرمة، وإنما تقصد حق ضيافة القوم.

[12]- السماحة: أي السخاوة بالزهد في الدنيا، والإحسان والكرم للفقراء، وقيل: الصبر على المفقود، والسماحة بالموجود.

[13]- من عقر: بالبناء للمفعول (جواده) أي قتل فرسه.

[14]- وأهريق دمه: بضم الهمزة وسكون الهاء، أي صب وسكب.

-[15] فقد كان الصَّحابةُ- رِضْوانُ اللهِ عَليهم- كثيرًا ما يَطلُبون مِن النَّبيِّ أن يَدعُوَ اللهَ لهم لقضاءِ حَوائجِهم؛ لأنَّهم يَعلَمون أنَّ دُعاءَه أَرْجَى في القَبولِ، وفي هذا الحَديثِ يَحكِي عثمانُ بنُ حُنيفٍ: أنَّ رجُلًا ضريرَ البَصرِ أتى النَّبيِّ ، فقال له: ادْعُ اللهَ أن يُعافِيَني"، أي: تَوجَّهْ إلى اللهِ بالدُّعاءِ أن يُعافيَني ممَّا في بصَري مِن ضرَرٍ، فقال له النَّبيُّ : "إنْ شِئتَ دعَوتُ"، أي: إنْ أحبَبتَ أن أدعُوَ لك بالشِّفاءِ والعافيةِ، "وإنْ شئتَ صبَرتَ"، أي: رَضيتَ بما أنتَ فيه، "فهو خيرٌ لك" في الأجرِ والثَّوابِ بما صبَرتَ على البلاءِ، فقال الرَّجلُ: "فادعُه"، أي: إنَّ الرَّجلَ اختارَ دُعاءَ النَّبيِّ له على كشف البلاء، فأمَره النَّبيُّ أن يتَوضَّأ، فيُحسِنَ وُضوءَه، ثم بعدَ فراغه من وُضوئِه يَدعو ويقول: "اللَّهمَّ إنِّي أسألُك وأتوجَّهُ إليك بنَبيِّك"، أي: أتوسَّلُ إليك بدُعاءِ نبيِّك "محمَّدٍ نبيِّ الرَّحمةِ"، أي: الَّذي بعَثْتَه بالرَّحمةِ، "إنِّي توجَّهتُ بك"، أي: توَجَّهتُ بالنَّبيِّ "إلى ربِّي في حاجَتي هذه"، أي: في الدُّعاءِ بشِفاءِ بصَري؛ "لِتُقْضى لي"، أي: لِتَستجيبَ الدُّعاءَ، "اللَّهمَّ فشَفِّعْه"، أي: إنَّه سأَل اللهَ أن يَقبَلَ شَفاعةَ دُعاءِ النَّبيِّ في قَضاءِ حاجتِه، وهذا ليس فيه توسُّلٌ بذاتِ النَّبيِّ ولا بجاهِه، وإنَّما كان تَوسُّلًا بدُعائه؛ فإنَّ النَّبيَّ دعا للرَّجُلِ وأمَره أنْ يَدعُوَ هو الآخَرُ، ويسأَلَ اللهَ قَبولَ شَفاعتِه .وفي الحديثِ: فَضلُ الصَّبرِ على البَلاءِ، وأن الدعاء برَفْعِه ليس مَذمومًا.

-[16] ما ارتتجا: انغلق. (ترتيب القاموس (2/299).

[17]- أخلق: جدير به.  (ترتيب القاموس (1/99).

[18]- بحبيبتيه: يريد عينيه.

[19]- لما بها: أي ذهبت.

[20]- ثمرة فؤاده: قال ابن الأثير: يقال للولد الثمرة، وذلك لأن الثمرة هي ما تنتجه الشجرة، وكذلك الولد من الرجل ما ينتجه.  

[21]- جزء من حديث أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- وحسنه الترمذي.

[22]- قال الحافظ في الفتح :3/195": قال المهلب: قوله: "ليس منا" أي ليس متأسيًا بسنَّتِنا، ولا ممتثلًا لطريقتنا التي نحن عليها، كما قال :" ليس منا مَن غشنا" لأن لطم الخدود، وشق الجيوب من أفعال الجاهلية. وقوله:" لطم الخدود" خص الخد بذلك؛ لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك، وقوله:" وشق الجيوب" جمع جيب، وهو ما يفتح من الثوب من جهة العنق؛ ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه: إكمال فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخط. وقوله:" ودعا بدعوى الجاهلية " ـ وفي رواية مسلم:" بدعوى أهل الجاهلية " أي: من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: "واجبلاه"، وكذا الدعاء بالويل والثبور. اهـ

وندبة الميت في هذا الزمان هي التعديد المعروف عند النساء تقول إحداهنَّ: "يا سبعي، يا جملي" مما هو مشهور، وهذا كله منهي عنه.

2- مكظوم: أي مملوء غيظًا وغضبًا في قلبه على قومه.

[24]- القين: الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء: إذا أصلحه. (فتح الباري لابن حجر: 3/173).

[25]- ظئرًا: مرضعًا، وأطلق عليه ذلك لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر: من ظارت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق ذلك على زوجها، لأنه يشاركها في تربيته غالبًا، وإبراهيم: ابن رسول الله ، (فتح الباري لابن حجر: 3/174)

[26]- يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله. (فتح الباري لابن حجر:3/174)

[27]- تذرفان: يجري دمعها، (فتح الباري لابن حجر: 3/171)

[28]- وأنت يا رسول الله: أي الناس لا يصبرون على المصيبة وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله: "إنها رحمة". أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد لا ما توهمت من الجزع، (فتح الباري لابن حجر: 3/174)

[29]- ثم أتبعها بأخرى: قيل: أتبع الدمعة بدمعة أخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى المجملة وهي قوله: (إنها رحمة) بكلمة أخرى مفصلة وهي قوله: (إن العين تدمع)

                                                                                                                                                                   (فتح الباري لابن حجر: 3/174)

1- في غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. (فتح الباري لابن حجر:3/175)

2- ولكن يعذب بهذا: أي إن قال سوءًا. (المصدر السابق)

3- أو يرحم: أي إن قال خيرًا. (المصدر السابق).

4- يعذب ببكاء أهله عليه: البكاء المحرم على الميت هو النوح، والندب بما ليس فيه، والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما، (شرح النووي على صحيح مسلم6/480) (وانظر فتح الباري لابن حجر:3/153-160).

5- أي يضرب في النواح على الميت بالعصا.

1- العوافي: جمع عافية.

2- رواه الترمذي (2464) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وقال: حديث حسن، والضياء المقدسي في المختارة (3/121) برقم (921) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/100) وابن المبارك في الزهد (1/182)، وهناد في الزهد (2/389) من كلام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

1- قرن الثعالب: هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.

1- صعيد: الصعيد هنا الأرض البارزة.

2- كبد القوس: مقبضها عند الرمي.

3- الأخدود: هو الشق العظيم في الأرض، وجمعه أخاديد.

4- أفواه السكك: أبواب الطرق.

[42]- الحوت: السمكة.

[43]- مكتل: هو القفة والزنبيل.

[44]- فهو ثمَّ: أي هناك.

[45]- الطاق: عقد البناء.

[46]- مسجى: مغطى.

[47]- بغير نول: بغير أجر.

[48]- إمرًا: عظيمًا.

[49]- زاكية: طاهرة من الذنوب.

1- دميت: أي جرحت وخرج منها الدم.

2- تتقعقع: تتحرك وتضطرب.

3- شن: هو القربة الخلق الصغيرة.

4- لكاع: يقال امرأة لكاع ورجل لكع، ويطلق ذلك على اللئيم، وعلى العبد، وعلى الغبي الذي لا يفهم كلام غيره، وعلى الصغير، وخاطبها ابن عمر بهذا إنكارا عليها وليس المراد وصفها بذلك المعني.

[54]- أي لأواء المدينة، واللأواء: الشدة وضيق العيش.

1- احتظرت بحظار شديد: أي احتمت بحمى عظيم من النار يقيها حرها، ويؤمنها من دخولها، لأنها صبرت على فقد ابنها.

1- في قبة من أدم: القبة من الخيام: بيت صغير مستدير، ومن أدم معناه من جلود.

2- أثرة: فيها لغتان إحداهما ضم الهمزة وإسكان الثاء، وأصحهما وأشهرهما: بفتحهما جميعًا، والأثرة الاستئثار بالمشترك.

1- يكون البيت فيه بالوصيف: الوصيف: العبد، والأمة: وصيفة، وجمعهما: وصفاء ووصائف والمراد يكثر الموت حتى يصير موضع قبر يشترى بعبد، من كثرة الموتى وقبر الميت بيته.

2- انظر " طريق الهجرتين وباب السعادتين ص448 – 459 " زاد المعاد: 4/188، عدة الصابرين ص 76-86، وجميعها لابن القيم - رحمه الله -.

وفضل وجزاء المصيبة عظيم، وأجره كبير، فمن أراد أن يقف عليها فليرجع- فضلا لا أمرًا- إلى الرسالة رقم (50) من نفس السلسلة والتي بعنوان: فضل وفوائد الابتلاء ص 56-78

[60]- هو عدو الله أبو لؤلؤة المجوسي؛ فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وكان من سبي نهاوند، وهو الذي قتل أمير المؤمنين في صلاة الفجر. (انظر طبقات ابن سعد:3/350)

-[61] هو عبد الرحمن بن ملجم المُرادي، وكان من الخوارج، وهو الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حينما خرج لصلاة الفجر. (انظر وفيات الأعيان:7/218) (الكامل لابن الأثير:3/388)

[62]- الوسن: أول النوم، وقال ابن سيده: السِّنةُ والوسنة والوسنُ: ثقلة النوم، وقيل النعاس. (انظر اللسان:13/449)

[63] - رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةt .

[64]- المِدْرَى: هي حديدة يسوَّى بها شعر الرَّأس.

[65] - فأمَر ببَقَرة من نُحاس فأُحْمِيت: قال ابن الأثير في " النهاية: 1/145": قال الحافظ أبو موسى: الذي يقَعُ لي في معناه أنه لا يريد شيئاً مَصُوغا على صورة البَقرة، ولكنَّه ربَّمَا كانت قِدرا كبيرةً واسعة، فسماها بقرة، مأخوذا من التَّبقُّر: التوسع، أو كان شيئاً يَسع بقَرة تامَّة بِتَوابِلِها فسمِّيت بذلك. والله أعلم.

3- المومسات: أي الزواني البغايا المتجاهرات بذلك. والواحدة: مومسة، وتجمع مياميس أيضًا.

 

[67]- الأكمه: الذي خُلق أعمى.

[68]- بالمئشار: المراد به المنشار.

 -[69]ذُرْوَتَهُ: ذروة الجبل: أعلاه. وهي بضم الذال وكسرها.

 -[70]فَرَجَفَ بهِمِ الجَبَلُ: أي اضطرب وتحرك حركة شديدة.

[71]- قُرْقُورٍ: السفينة الصغيرة، وقيل: الكبيرة.

 -[72]فَانْكَفَأَتْ بهِمُ السَّفِينَةُ: أي انقلبت.

 -[73]صَعِيدٍ وَاحِدٍ: الأرض البارزة.

 -[74]كَبِدِ القَوْسِ: مقبضها عند الرمي.

 -[75]وَاللَّهِ نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ: أي ما كنت تحذر وتخاف.

 -[76]بالأُخْدُودِ: الأخدود هو الشق العظيم في الأرض، وجمعه: أخاديد.

[77]- أَفْوَاهِ السِّكَكِ: أي أبواب الطرق.

7- فأحْمُوهُ فِيهَا: أرموه فيها. من قولهم: أحميت الحديدة وغيرها، إذا أدخلتها النار لتحمى.

8- فَتَقَاعَسَتْ: أي توقفت ولزمت موضعها، وكرهت الدخول في النار.

[80]- أولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد- صلوات ربي وسلامه عليهم-. وهم الذين خصهم الله بالذكر في سورة الأحزاب بقوله:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب:7)، كما ذكرهم في سورة الشورى في قوله تعالى:

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13) وهؤلاء الأربعة من الأنبياء وخامسهم النبي لقوا من العنت والأذى والبلاء أكثر مما لقيه غيرهم من الأنبياء والمرسلين.

[81]- قرن القرآن الكريم بين هؤلاء الثلاثة من الرسل في هذه الآية من سورة الأنبياء، ووصفهم بالصبر، ولكن لم يعرف ما صبر عليه إدريس وذو الكفل- عليهما السلام-

[82]- الأخشبان: جبلان بمكة.

[83]- الأَكَلَة: داء يقع في العضو فيأكل منه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق